حدث الانتقال من أزمنة العصور الوسطى إلى العالم الحديث بموجب تحولات كيفية في مستويات شتى وشمل بنيات مختلفة. لم تكن تلك التحولات متوازية بالضرورة، فقد كان البعض منها أسرع في خطوه من البعض الآخر، مثلما أنه لم تحدث قطيعة تامة ونهائية بين نظامين في المعرفة والوجود إلا بتراكم خبرات وتجارب من جانب أول، وبفعل ثورات متفاوتة الأهمية لم تكن لتخلو من انتكاسات تعقبها من جانب ثانٍ. هي إذن سيرورة امتدت عبر قرنين اثنين من الزمان، وليس ما يعرف بعصر النهضة سوى بعض من تلك السيرورة. يمكن القول، بكيفية أخرى: إن ولوج العصر الحديث تَمّ من دروب ومسالك مختلفة، وبالتالي يصدق الحديث عن مداخل مختلفة ومتنوعة الحداثة. وفي مقالنا هذا نريد أن نقف عند أحد أوجه التحول تلك من زمان إلى زمان آخر مختلف عنه، بل ومخالف له، والتحول حدث في مستوى الوجود الاجتماعي من جهة أولى، وفي مستوى النظام السياسي من جهة ثانية. ذلك أن رجة قوية أحدثت شرخاً عميقاً في كل من بنية النظام السياسي وبنية النظام الاجتماعي فعملت على إرساء قواعد جديدة، صلبة، لتصورين جديدين لكل المجتمعي والسياسي. لا نرى غضاضة في القول: إننا -في الفترة موضوع حديثنا (القرنان السابع عشر والثامن عشر)- أمام ميلاد فهم جديد لكل من المجتمع والسياسة. لنقل بالأحرى إننا أمام ميلاد للمجتمع، في صورة جديدة غدا بِها مخالفاً لما كان عليه، قروناً عديدة قبل ذلك وهذا من جانب أول، كما أننا أمام ظهور معنى جديد للسياسة (موضوعاً ومنهجاً وقوانين) سعى إلى ضرب الدلالة التي ظل العمل السياسي يكتسيها طيلة أزمنة العصور الوسطى الطويلة (ما يفوق ثمانية قرون) فهو يريد أن يجثثها من أصلها حتى يتمكن من إقامة صرح جديد للسياسة وتصور جديد لـ(السياسي) يكون أكثر مناسبة للتطورات التي حدثت في مستويات المجتمع، والاقتصاد، والدين، والمعرفة وهذا من جانب ثانٍ. الحق أننا أمام ميلاد مزدوج لكل من المجتمع والسياسة، ميلاد هو أساس التصورات الراهنة لكلا المفهومين، مع اختلافات يسيرة لاتصال العمق ولا تمس البنية العميقة لكل من المجتمع والسياسة المعاصرين.
نود في هذه المحاولة أن نتبين طبيعة ومغزى هذا الميلاد المزدوج للمجتمع والسياسة في التصور الحديث أو في ضوء الفكر الحديث ونسعى إلى التوسل في ذلك بالنظر في مفهومين هما العقد الاجتماعي والشرعية. وإذ جرى العمل، في الفكر الفلسفي السياسي الحديث على اعتبار كل من الفيلسوف البريطاني طوماس هوبز والفيلسوف الفرنسي (أو بالأحرى السويسري الناطق باللغة الفرنسية) جان جاك روسو أكثر فلاسفة (العقد الاجتماعي) تمثيلاً للنظرية كما أن مؤرخي الفكر درجوا على اعتبارهما يقفان على طرفي نقيض كل بالنسبة للآخر، فكل منهما يعبر عن الرأي المضاد وينطق بلسان الجهة المخالفة للأخرى كلية (إن لم نقل المتصارعة معها والساعية إلى الإطاحة بها).. فنحن لهذين الاعتبارين معاً نقف عندهما طلباً لفهم معنى العقد الاجتماعي وبحثاً عن مغزى الحديث عن الشرعية في التعاقد بين الطرفين المتعاقدين (أو الأطراف المتعددة). وبالنسبة لمطلبنا الأساس فنحن في معرض النظر في أحد مداخل الحداثة أو في حال التمعن في أحد المسالك التي أمكن للفكر الفلسفي السياسي الحديث أن يتبعها في الانتقال من أزمنة العصور الوسطى إلى الأزمنة الحديثة.
1- التأسيس الاجتماعي والتكون السياسي الحديث: ميلاد مزدوج
من البديهي في الفكر أن (الجديد) لا يكون كذلك إلا في مقابل (القديم) الذي يجعله الفكر في موضع شك ويقف منه موقف الرفض والمراجعة. والثورة الفرنسية، تلك التي ينعتها هيجل بالمكنسة الهائلة التي سعت إلى إزالة كل ما قدرت أنه يقف في وجهها –حملت- في جملة ما حملته، تقابلاً وتضاداً بين عالمين وتصورين. ففي الكتب التي تؤرخ للثورة الفرنسية نجد تقابلاً وتضاداً بين "النظام القديم" (نمط الوجود السياسي والاجتماعي الذي كان موجوداً ليلة الرابع عشر من يوليو 1789م) و(النظام الجديد) الذي يسعى رجال الثورة إلى إقامته. وفي موازاة مع هذا التمييز درج مؤرخو الفكر على إطلاق نعوت التصور القديم والمعرفة القديمة والنظرية القديمة وما في هذا المعنى على كل الآراء والتصورات السابقة، عموماً، على القرن السابع عشر. وبموجب هذا التمييز كذلك نجدنا -كما أشرنا إلى ذلك في التمهيد أعلاه- في حاجة إلى إدراك معنى (القديم) في تصور كل من المجتمع والسياسة حتى يكون في وسعنا أن نتبين معنى (الجديد) المراد إقامته.
كان (النظام القديم) قائماً على أساس وجود اجتماعي قوامه التراتب بين سادة، يمتلكون الأراضي الشاسعة (المادة الأولى في الإنتاج الاقتصادي في العصور الوسطى)، ويشرع للتراتب ذلك وللملكية تصور إيديولوجي يربط السلطة الحاكمة بالقدسية ويقضي بأن تلك السلطة تكون سلطة مطلقة. عمل على صياغة التصور الإيديولوجي القاضي بقدسية السلطة السياسية العليا وإطلاقها كل من رجال الكنيسة وفقهاء الحق المقدس أو ما عرف بنظرية (الحق الإلهي للملوك). كذلك نجد البابا غريغوار السَّابع يشرع العقيدة (التيوقراطية) التي ترسم مناطق نفوذ البابا والكنيسة فنقرأ في الفصل التاسع من العقيدة التيوقراطية أو الدستور المقدس أن (البابا هو الإنسان الوحيد الذي يكون للأمراء تقبيل قدميه). ونقرأ في الفصل الثاني عشر أن البابا (يسمح له أن يطيح بالأباطرة من عروشهم)، كما نقرأ في الفصل الثامن عشر أن الكلمة التي تصدر عن البابا (لا يمكن أن يقومها إنسان آخر، في حين يكون للبابا أن يبدي النظر في الأحكام الصادرة عن بقية البشر)، ونقرأ، في الفصل التاسع عشر، أن البابا (لن يمكن أن يكون أبداً موضع محاسبة من أي كان)(1). تُقابل العقيدة التيوقراطية وتدعمها وتتقاسم المهام معها نظرية (الحق الإلهي) أو الحق المقدس للملوك. ومن الصيغ العديدة التي تقدم بِها هذه النظرية الأخيرة نقف عند الصياغة التي يقدمها المؤرخ الفرنسي بوسويه Bossuet في كتابه الشهير "السياسة مأخوذة من كلمات الكتابة المقدسة". ولنظرية الحق الإلهي، عند المؤرخ الفرنسي، قواعد أربعة تقف عليها.
- القاعدة الأولى تقضي بأن سلطة الملوك (سلطة مقدسة، ذلك أن الملوك خلفاء الله في الأرض وعن طريقهم يدير الرب شؤون مملكته (..). لذلك لم يكن العرش الملكي عرشاً ملكياً وكفى، بل إن ذلك العرش يكون عرش الإله ذاته).
- القاعدة الثانية تقرر أن السلطة الملكية في جوهرها سلطة أبوية (إذ الملوك يحلون محل الله الذي هو الأب الحقيقي للجنس البشري (..) وحيث كانت الفكرة الأولى التي يمتلكها الإنسان عن القوة هي الفكرة التي لديه عن القوة الأبوية (..) فقد كان الملوك على غرار صور الآباء).
- أما القاعدة الثالثة -وهي كما سنرى- ناتج منطقي عن القاعدتين السابقتين فهي تحكم بإطلاقية السلطة الملكية (المقدسة والأبوية) فلا شيء يقيدها أو يكون له أن يحد من إطلاقها (فليس للملك أن يقدم تبريراً لما يأمر به (..) إذ بغير هذه السلطة المطلقة يكون الملك عاجزاً عن فعل الخير وعن المعاقبة على الشر. ينبغي لسلطة الملك إذن أن تكون من القوة بحيث إنه ليس لأحد أن يأمل في الإفلات من قبضته).
- وأما القاعدة الرابعة والأخيرة فهي شرط كَمَالٍ وصحة معاً، وهي الخلاصة الأخيرة لكل القواعد الثلاثة المتقدمة. وفحوى هذه القاعدة أن السلطة الملكية (المقدسة والأبوية والمطلقة) لا يمكن أن تكون موضع اعتراض عليها من قبل الواقعين تحت حكمها، بل ولا يجوز أن تكون محل تذمر. فإذا فرضنا أنه يظهر من عَنَتِ الملوك على الرعية ما ينوء به حملها وفرضنا أنه يبدو من الملوك أفعال ترى فيها الرعية ظلماً عظيماً فإنه ليس لتلك الرعية (أن تعترض على عُنْفِ الأمراء إلا أن يكون الاعتراض شكاوى ملؤها الاحترام والتعظيم، في غير شَغَبٍ ولا فتنة، بل في دعوات صالحة بالرشد والهداية للملوك)(2).
تلتقي النظريتان (الحق الإلهي - التيوقراطية) في القول بقدسية السلطة وإطلاقها، بل إنهما في العمق نظرية واحدة لها وجهان اثنان أو مظهران، وهما تجتمعان في الاكتساح الشامل للوجود الاجتماعي في توافق مع نظام الوجود الاجتماعي الذي هيمن على الغرب طيلة العصور الوسطى، وفي انسجام مع النظام المعرفي. ولعل المؤرخ الفرنسي ألبرت سبول Albert Seboul يوجز القول في تصوير التوافق بين النظريتين إذ يصف، في جملة وجيزة، بنية المجتمع الفرنسي في ظل (النظام القديم) فيذكر أن تلك البنية كانت بنية بسيطة تسندها قسمة ثلاثية تشمل (الذين يتعبدون، والذين يحاربون، وكل أولئك الذين يشتغلون من أجل إطعام الفئتين معاً)(3).
بيد أن رجة قوية ستصيب كلاًّ من النظامين القائمين (السياسي والاجتماعي) في الأساس الذي يرتكز عليه بموجب أحداث كبيرة متلاحقة. فمن جهة أولى لم تعد طبقة النبلاء طبقة قوية وموحدة قادرة على حماية النظام السياسي القائم وحفظه من الزوال كما أن الضعف أخذ يتسرب إلى المؤسسة الملكية نتيجة تنامي القوى الاجتماعية المناوئة لها ونتائج ظهور نمط جديد من الإنتاج الاقتصادي لا يخضع لهيمنتها ولا يتصل بالقوى المحيطة بها. ومن جهة ثانية لم تتمكن طبقة رجال الدين من الحفاظ على تماسكها ووحدتها، مع ما بدا من انتصار حققته الكاثوليكية في فرنسا خاصة على حساب البروتستانتية ودَعَاوَى الحرية في ممارسة الاعتقاد التي أخذ صوتها في الارتفاع. ومن جهة ثالثة أخذ شأن البورجوازية في التعاظم والنمو فحدث ذلك في هولندا أولاً ثم في بريطانيا ثانياً بدءاً من القرن السابع عشر، ثم انتقل إلى فرنسا في القرن الثامن عشر حيث أصبحت البورجوازية -نتيجة ما عرفته من رخاء وتطور- المصدر الأول في رؤوس الأموال الضرورية للنشاط الاقتصادي (فلم يعد لطبقة النبلاء سوى دورٍ هامشي طفيلي) كما يذكر ذلك ألبرت سوبول في مرجعه السابق ذكره(4). ومن جهة رابعة وأخيرة كان للكشوف الجغرافية المتوالية، وللمعارف العلمية الجديدة التي لاقى حملتها سنداً ونصيراً من الطبقة البورجوازية، وكذا للقيم الجديدة التي رافقت ذلك كله. كان لكل هذا أثره في إحداث الخلخلة الضرورية الكفيلة بزعزعة (النظام القديم) قبل أن تنتهي الثورة الفرنسية إلى الإطاحة به وإعلان نظام جديد يحل محله في مجال كل من البناء الاجتماعي والتشريع السياسي الذي يكون في توافق معه.
يمكن القول في كلمات قليلة: إن السلطة السياسية التي تقوم على القدسية والإطلاق والأبوية، والحق الإلهي أصبحت غير ذات معنى تلاشت القاعدة التي تستند عليها كما خفت، قبل أن يختفي صوت النظرية الأخلاقية التي تسندها والتصور الديني الذي يبرر وجودها. كما يمكن القول، من جهة أخرى وفي كلمات قليلة كذلك، إن صورة الاجتماع البشري الذي يمثله النظام الباترمونيالي القاضي بوجود أب رئيس، وباعتبار الإرث أو التراث مدار الاجتماع البشري، ومن ثَمّ الاجتماع الذي تكون (الأسرة الممتدة) (كما يقول علماء الاجتماع) قاعدته ويكون الاضطرار والخوف والقدسية لحمته.. هذه الصورة أخذت تعرف سبيلها إلى الزوال لصالح تأسيس اجتماعي جديد قوامه (المصلحة، والمنفعة، والصالح العام، والمواطنة).
كذلك يبدأ اجتثاث (النظام القديم) من أساسه ليحل محله، بالتدريج وفي مسيرة متصلة شملت بنيات المعرفة والاقتصاد والسياسة والمجتمع، نظام مغاير، مخالف، فهو لذلك، ميلاد مزدوج يفيد التأسيس للمجتمع تأسيساً جديداً والتشريع للسياسة تشريعاً جديداً يكون النظام السياسي لموجبه ثمرة اتفاق وتعاقد لا خوف وضرورة وقهر.
2- العقد الاجتماعي والشرعية: مكونات النظام الجديد
يجوز القول إجمالاً: إن (النظام الجديد) الذي حمله الفكر الفلسفي الحديث عامة، والنظر السياسي منه خاصة، وسعت الثورة الفرنسية إلى أن تكون التجسيد العملي له يقوم على عناصر أربعة، لا جديد فيها من حيث منطوقها، وإنما الجدة تكمن في المضامين التي يحملها كل منها وفي المعنى الذي سعى فلاسفة الفكر الحديث إلى إكسابه لتلك العناصر كل من زاويته، وكل من الطريق الذي سلكه في صياغة بنائه النظري. والعناصر الأربعة المقصودة (أو بالأحرى: الأركان الأربعة الأساس التي تسند (النظام الجديد) وتعمل على بلورته معاً) هي: العقل والحرية والمواطنة والإنسان.
لنقف إذن وقفات أربع موجزة عند الأركان الأربعة هذه مقدمة ضرورية لإدراك المقصود بكل من (الشرعية) و(التعاقد الاجتماعي).
أ- العقل
يمثل العقل في الفكر الفلسفي الحديث طريقاً إلى الحقيقة ومنهجاً في المعرفة، ومثل أعلى يتعين طلبه والاقتداء به. لم يكن الشأن كذلك عند الفلاسفة المثاليين والعقلانيين فحسب بل إنه كان كذلك عند دعاة الاحتكام إلى التجربة. وفي كلمة جامعة يجمل القول أن الدعوة إلى الجديد في القرن السابع عشر - في كل تجليات التجديد. وما يتعين الانتباه إليه في هذا الصدد هو أن هذه صورة العقل تلك لم يكن الوصول إلى اكتسابها أولاً ثم إلى سيادتها ثانياً إلا بفضل سيرورة طويلة متصلة تخللها الألم الكثير وعرف فيها العقل -أحياناً- انتكاسات لم تكن تخلو من قوة وعنف معاً.
لا جدال أن التجلي الأعظم لصورة العقل على نحو ما يتحدث عنه (مثلاً أعلى ومنهجاً وطريقاً إلى المعرفة الصادقة) هو الفيلسوف الفرنسي روني ديكارت (1596-1650) في أمور ثلاثة يذكرها فيؤكدها: الأمر الأول هو اعتماد الشك منهجاً وطريقاً إلى اليقين، بمعنى أننا نجعل الأشياء كلها في موضع شك فلا نقبل منها إلا ما أمكن له أن يرتقي، في الاختبار، إلى مرتبة البداهة من جانب أول وأن يكون في وضوح القضايا الرياضية ودقتها المطلقة إذ تتم البرهنة عليها. والأمر الثاني هو الأخذ بالمنهج الرياضي واعتباره، في البحث عن الحقيقة في الأمور كلها، منوالاً ينسج عليه ونموذجاً يلزم الأخذ به. ولا أدل على حضور العقل واعتماده حكماً أعلى من البرهان الرياضي ومن المنهج الفرضي الاستدلالي الذي يلزم عنه. والأمر الثالث هو السعي إلى التماس المعرفة فيما يسميه ديكارت (كتاب العالم) (le grand livre du monde)، ومعنى هذا القول هو أن المعرفة لا تلتمس في بطون الكتب فقط ولا تقرر في أقاويل الشراح والمعلقين (وتلك سمة المعرفة ومنهجها في العصور الوسطى، إذ ترقى إلى أقوال الشيوخ وآباء الكنيسة إلى رتبة القداسة والإطلاق)، بل إن المعرفة تطلب من الملاحظة والتجربة.. وبالتالي من النظر في العالم نظراً يكون فيه العقل قائداً وهادياً مرشداً... وفي هذه الأمور الثلاثة كلها رجة قوية لما كان من القضايا والمعارف والمناهج مقرراً، بل وسعي إلى اجتثاث ما كان في حقيقته دعامة النظام المعرفي (القديم) ومبرر وجوده.
لا يمكن في هذا المستوى من النظر أن نغفل ذكر الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا (1632-1677) وجهده في التمييز بين مجال الإيمان والدين من جانب، ومجال العقل والفلسفة من جانب ثانٍ على نحو ما يوضح ذلك، بكيفية دقيقة صارمة وواضحة معاً في الفصل الرابع عشر من "رسالة في السياسة واللاهوت". والقضية التي سعى سبينوزا إلى خدمتها تقوم في الاعتراف للعقل البشري بمجال لا يكون لغيره أن ينافسه فيه ومن ثَمّ تحريره من رِبقة اللاهوت وسلطة آباء الكنيسة حراس النظام (القديم).
يجوز القول إجمالاً: إن العقل في الفكر الفلسفي الحديث كان حاضراً كأكثر ما يكون الحضور قوة وكان السلاح الأقوى الذي رفعه دعامة النظام المعرفي الجديد في وجه دعاة النظام الآخر الذي كان في طريقه إلى التداعي والسقوط.
ب- الحرية
لا غرو أن العقل والحرية صنوان، وإن هذه الحقيقة الأولية هي أكثر ما تكون نصاعة في (النظام الجديد) الذي سعى الفلاسفة وقادة العقل السياسي، ودعاة التأسيس الاجتماعي الحديث، إلى إقامة القاعدة الصلبة التي تسمح بإقامة صرح الجديد وحراسته معاً. فخوفاً من الإبحار بعيداً عن القضية موضوع حديثنا في القول في الحرية في الفكر الفلسفي الحديث، نرى الاكتفاء بالتنبيه على أمور ثلاث عملت، مجتمعة، على الإسهام في بناء قاعدة (الجديد) الصلبة التي يتحدث عنها:
الأمر الأول هو ذاك الذي يتعلق بما أمكن الانتهاء إليها، في حروب الإصلاح الديني والمعارك التي خاضها البروتستانت خاصة ضداً على هيمنة النظام الكنسي الكاثوليكي وانتهت إلى اعتباره حرية الاعتقاد (أو الحرية في ممارسة الاعتقاد المسيحي على النحو الذي يختاره المؤمن) مكسباً تاريخياً عظيماً. وقد يلزم التنبيه في هذا الصدد أن البلد الوحيد في أوربا الغربية الذي كانت هذه الحرية فيه واقعاً متجسداً هو بلاد الأراضي المنخفضة. لذلك السبب أمكن للفيلسوف البريطاني جون لوك أن يفر بجلده من أتون الحرب الأهلية المستمرة في بلاده وأن يجد في هولندا مرفأ آمناً يكتب فيه ويقدر على نشر خطابه الأول ثم الثاني في (التسامح) - مثلما أمكن لرونيه ديكارت أن يجد في هذا البلد ملجأ من ملاحقة آباء الكنيسة قضاة محاكم التفتيش فيكتب (تأملاته) ويتبادل رسائله الشهيرة مع صديقه ميرسين وأن يذيع آرائه في النفس البشرية وأن يخط قواعده من أجل (حسن قيادة العقل).
الأمر الثاني الذي يجمل التنبيه عليه، في الحديث عن قيمة خطاب الحرية في إقامة الصرح (الجديد) يتجلى في الحرص على الربط بين الحرية وبين العقل أو، بالأحرى، اعتبار اعتماد العقل طريقاً ومنهجاً ممارسة للحرية. فإذا كانت الحرية، في الاجتماع البشري، تقتضي وجود الكائنات الحرة التي تتوافر على الإرادة في الاجتماع الحر، فإن الضمانة الأكيدة في ذلك الاجتماع -حيث لا تعني ممارسة الحرية من قبل البعض إقصاء وهدفاً للحرية عند البعض الآخر- يقوم في العقل مرجعاً وسلطة عليا. لهذا السبب الأساس كان حضور العقل قوياً واضحاً عند جون لوك، وباروخ سبينوزا، وجان جاك روسو، وطوماس هوبز... وبالتالي عند كبار منظري التعاقد الاجتماعي. فكما يصح القول: إنه لا تعاقد صحيح دون حرية، يصدق القول: إنه لا تعاقد صحيح إلا بين عقلاء، في دولة العقلاء.
الأمر الثالث -الذي يؤشر على حضور الحرية لا يمكن تصور الصرح السياسي الجديد مع غيابه، ولا قيام النظام المعرفي الجديد مع غموضه واضطرابه- هي التأكيد على الطابع الآدمي للسلطة السياسية، وتلك ماهية العقد الاجتماعي ومغزى التعاقد بين أشخاص لا يصح أن يكون بينهم تعاقد إلا لكونهم عقلاء أحرار.. يقولون بالعقل قائداً ومرجعاً ولا يفهمون لغياب الحرية في التعاقد دلالة.
ج- المواطنة
للإنسان العاقل (= المؤمن بالعقل، العقل قائداً ومنهجاً في الحياة والمعرفة معاً)، الحر الذي يرغب في تأسيس عقد اجتماعي سبيلاً إلى بناء النظام الاجتماعي الجديد وتأسيس دولة الحرية، لهذا الإنسان اسم معلوم في قاموس فلاسفة التعاقد الاجتماعي في القرنين السابع عشر والثامن عشر: إنه (المواطن) وعند سبينوزا تمييز دقيق وشهير بين كل من الابن، والعبد، والمواطن في الحديث عن الالتزام بطاعة القواعد والأحكام المقررة. (فرق كبير بين العبد والابن والمواطن نصوغه كما يلي: العبد هو من يضطر إلى الخضوع للأوامر التي تحقق مصلحة سيده، والابن هو من ينفذ بناء على أوامر والديه أفعالاً تحقق مصلحته الخاصة، وأما المواطن فهو من ينفذ بناء على أوامر الحاكم أفعالاً تحقق المصلحة العامة وبالتالي مصلحته الشخصية)(5).
إذا كانت المواطنة تعني -بموجب النص المذكور- الامتثال والطاعة للقوانين المسطرة بناء على أوامر الحاكم فإنه لا يجب أن يغرب عن البال أن الطاعة تلك تكون للقوانين التي كان الفرد المطيع بمحض إرادته طرفاً في صياغتها بحسبانه متعاقداً. ذلك أن القانون، منظوراً إليه من هذه الجهة، هو كما يقول روسو (الفن المدهش العجيب الذي أمكن العثور عليه وأمكن بواسطته إخضاع البشر من أجل تصييرهم أحراراً). يبدو في طاعة القانون طاعة عمياء عبودية تقيد الإنسان، غير أن الأمر لا يكون كذلك عند فلاسفة الحكم في القرن الثامن عشر إلا في ظاهر الأمر أما الحق فهو - كما يكتب روسو- متسائلاً: (كيف يمكنهم في ظل عبودية مماثلة أن يكونوا أكثر حرية وأن لا يفقد المفرد الواحد من حريته إلا بمقدار ما يكون فيه ما يفقده مصدر تشويش وإزعاج بالنسبة للفرد الآخر). خضوع للقانون ظاهره عبودية، وباطنه ممارسة للحرية في أعلى مستوياتها. تلك هي، في نهاية الأمر، طبيعة المواطنة وتلك دلالة التعاقد الحر بين مواطنين أحرار عند روسو والأمر كذلك في العمق، عند مجمل فلاسفة التعاقد الاجتماعي فالاختلافات لا تطال العمق متى أمعنا النظر كما سنرى في القسم الموالي. أما الآن فلنقف وقفة قصيرة، رابعة وأخيرة، عندما نرى فيه الركن الرابع الأساس الذي يسند (النظام الجديد) ويكسبه مادته وشرعيته معاً.
د- الإنسان
القول بالمواطنة، والحرية، والعقل يفضي بنا في خاتمة القول إلى القول: بالإنسان قيمة مطلقة عليا ومرجعاً يكون الاحتكام إليه أولاً وأخيراً. ذلك ما يفيده -من حيث العمل السياسي- الانتفاض في وجه (التيوقراطية) والإطاحة أرضاً بكل نظر سياسي يرى في السلطة السياسية تجلياً للقدسية المفارقة من جانب أول، وتجسيداً لسلطة الأب الرئيس من جانب ثانٍ، وتعبيراً عن السلطة المطلقة التي لا يمكن الاعتراض عليها. فالانتفاض في وجه نظرية الحق الإلهي ترجمته العملية أن السلطة السياسية - عكس ما تشرع له النظرية (التيوقراطية)- شأن بشري محض لا مكان فيه لمقدس، إلا أن يكون تقديساً للأمر المتعاقد عليه والتزاماً بمقتضياته، ولا مجال فيه للحديث عن إطلاق وإلا استحال التعاقد إلى عبودية وخنوع. ذلك أن المواطن، لا ينتسب إلى المواطنة، إلا لأنه يمارس الحرية ويرجع في كل أفعاله والتزامه إلى العقل.
3- العقد الاجتماعي والشرعية بين تصورين
في نظرية التعاقد الاجتماعي -بموجب التقليد الشائع في الفكر السياسي الحديث- يمثل الفيلسوفان طوماس هوبز وجان جاك روسو على طرفي نقيض. ذلك أن الفيلسوف البريطاني يبدو ممثلاً عملياً لدعاة الحكم المطلق وتبرير الاستبداد السياسي باسم التعاقد الاجتماعي ومقتضياته. في حين أن نعت فيلسوف الثورة يظل الأكثر ملاءمة في الحديث عن الفيلسوف الفرنسي. والحق أننا، في نظرة أولى في "اﻟﻠﻴﭭﻴﻂﺎن" (Léviathan) (الكتاب الأساسي لهوبز) من جانب أول وفي"العقد الاجتماعي" لروسو، من جانب ثانٍ، فنحن نجد للفكرة الشائعة التي تقضي بوجود الفيلسوفين على طرفي نقيض ما يبررها. ولكن الحق كذلك أننا، متى أمعنا النظر وطلبنا الدلالة العميقة لما يريد كل من الرجلين أن ينتهي إليهما فنحن ننتهي إلى ما يجوز اعتباره خروجاً عن التقليد الشائع ومن ثَمّ إلى التقرير بأن النظريتين المتعارضتين لا تكونان كذلك إلا في ظاهر القول.. أما في العمق فإنهما تصيران إلى غاية واحدة مشتركة، فالنظريتان تعبيران مختلفين عن معنى واحد.
لنظرية التعاقد الاجتماعي -عند مختلف الفلاسفة الذين خاضوا فيها- عناصر ثلاثة، مكونات ثلاثة أساسية: أولها القول بالتعارض بين حالة الطبيعة وحالة المجتمع. وثانيها القول في كيف التعاقد الاجتماعي ذاته. وثالثها الإعلان عن رأي واضح في السيادة.
في هذا القسم نقترح تبين التصورين المختلفين (هوبز/ روسو) من خلال التعرف على الرأي الذي يأخذ به كل من صاحب "اﻟﻠﻴﭭﻴﻂﺎن" ومؤلف "في العقد الاجتماعي" في كل من العناصر الثلاثة المذكورة.
أ- حالة الطبيعة/ حالة المجتمع
(حالة الطبيعة)، حالة افتراضية وهمية، القول فيها يكون في حقيقة الأمر لمقتضيات بيداغوجية كما سنتبين ذلك. تقضي هذه الحالة بأن الإنسان كان يعيش في حالة سابقة على ظهور المجتمع. لقد مر الإنسان -حسب النظرية هذه- بحالتين اثنتين إذن: حال كان عليها قبل أن (يدخل) في المجتمع، وحال ثانية، لاحقة عليها، هي تلك التي أصبح عليها منذ أن صار إلى العيش (داخل المجتمع). الحالة الثانية ليست مجرد انتقال من درجة في الوجود دنيا إلى درجة ثانية أعلى من الأولى، بل هي تغير كيفي كلي، وبين الحالتين (الأولى والثانية) هوة سحيقة تنعدم معها أسباب الاتصال. أما حال الطبيعة، أيّاً كان الحكم عليها، فلا يمكن الرجوع إليها وإنما المطلوب من الفيلسوف أن يوضح ما إذا كان الأفضل بالنسبة للإنسان البقاء عليها، فهو إذ (غادرها) خسر خسراناً مبيناً أم إن الأحرى أن يقول إن الإنسان لم يفقد شيئاً إذا انتقل إلى (حالة المجتمع) بل إنه كان له ربح واضح كبير. وفي سؤال جامع نقول: هل حالة الطبيعة حالة شر بالنسبة للإنسان أم إنها حالة خير بالنسبة له؟
حالة الطبيعة عند طوماس هوبز (1588-1679) حالة شقاء كلها لأنها حالة الحرب المطلقة المتصلة، وهي حالة يكون فيها الإنسان (ذئباً لأخيه الإنسان) (homo homini Lupus). يعيش الإنسان في هذه الحالة بموجب قانون واحد هو قانون (الحق الطبيعي) - وهذا القانون يعطي لكل إنسان (كامل الحق في ممارسة قدرته الشخصية من أجل طبيعته الخاصة، أو بتعبير آخر: من أجل حفظ حياته الخاصة)(6)، لا ضوابط ولا موانع تقوم في وجه هذا الحق إلا أن تكون ضوابط القوى، وهذه لا حدود لها ما دامت مختلفة ومتفاوتة بين البشر. التفاوت في القوة مصدر تعاسة وشقاء متى حصل التنافس من أجل الحصول على الشيء الواحد وبالتالي فالأمر لا محالة آيل إلى العداوة. لذلك لا غرابة عند هوبز أنه (إذا زرع إنسان ما زرعاً أو غرس غرساً أو ابتنى بنياناً أو استعمر أرضاً فإن آخرين، من بني جلدته، يقبلون عليه وقد وحدوا قواهم وتأهبوا لكي ينتزعوا منه ما يملكه)(7).
يتساءل هوبز: ألا توجد في الطبيعة قوانين تعصم الناس من الوقوع تحت سيطرة وظلم البعض للبعض الآخر من الناس؟ والجواب عند هوبز بالإيجاب، من حيث المبدأ المجرد، ما دام هناك في الطبيعة قوانين (وقانون الطبيعة مبدأ، أو قاعدة عامة اكتشفها العقل وهي التي بموجبها يحرم على البشر أن يفعلوا كل ما من شأنه أن يؤدي إلى تدمير حياتهم أو كان ينزع عنهم الوسيلة إلى حفظها)(8). قانون الطبيعة هو ذلك المبدأ البسيط الواضح الذي يقضي بأن علي أن أعامل الناس كما أحب أن يعاملوني به. لذلك كانت (العدالة، والمساواة، والاعتدال، والرحمة) مفاهيم تندرج كلها في قوانين الطبيعة. ولذلك كان (الانحياز، والانتقام، والخيلاء، وما في هذا المعنى) من مضادات تلك القوانين فالجميع ينفر منها بطبيعته. فلماذا كان البشر إذن يؤمنون بالقيم الأولى فيما هم يعمدون إلى اقتراف ما ينسب إلى الثانية؟ والجواب المفسر لذلك يكمن عند هوبز في (الطبيعة الإنسانية) ذاتها، فهي ضعيفة ومائلة إلى اقتراف الشر. لذلك لا سبيل آخر لكف أذى الناس لبعضهم البعض إلا بالاحتكام إلى سلطان القوة: (طالما كان البشر يعيشون من غير سلطان مشترك، يحملهم جميعاً على التزام الاحترام فإنهم يكونون على هذه الحالة التي تسمى حرباً، والتي هي حرب كل إنسان ضد أخيه الإنسان)(9).
خلاصة القول في حالة الطبيعة عند طوماس هوبز أن هذه الأخيرة لا تمثل إلا ما كان غير معقول وغير مقبول فهي شر كلها ما كان أمر الحياة الإنسانية ليستقيم إلا بنبذه والابتعاد عنه.
أما عند جان جاك روسو (1712-1788) فإن الأمر يختلف من جهة النتيجة وإن كان يوافق هوبز من جهة نقطة الانطلاق. يوافق روسو هوبز في قوله إن مفاهيم العدالة، والظلم، والمساواة، والخير، الشر وما إليها تظل في حالة الطبيعة ألفاظاً جوفاء لا مضمون حقيقي لها، ولكنه يخالفه في القول إن حالة الطبيعة حال شر إذ لا يمكن أن ننعت الإنسان بالشر لا لشيء إلا لأنه يجهل مضمون الخير، بل الحق أنه يجهل دلالة الشر والخير معاً. يرى روسو أن هوبز استطاع أن يكتشف (عيب كل التعريفات الحديثة للحق الطبيعي غير أن النتائج التي يستخلصها من التعريف الذي يقدمه هو ذاته تبين لنا أنه يأخذها في معنى ليس أقل خطأ). بيد أنه يتعين على مؤلف "اﻟﻠﻴﭭﻴﻂﺎن" (أن يقول إن حالة الطبيعة هي الحالة التي يكون فيها الاهتمام بحفظ وجودنا الخاص أقل إلحاقاً بالضرر للغير، وبأن هذه الحالة هي بالتالي الحالة الأكثر موافقة للسلام والأكثر ملاءمة للنوع البشري. غير أن هوبز يقول عكس ذلك بالضبط فهو يقوم خطأ بإدخال رغبات من صنع المجتمع ويدرجها في عداد ما يسعى إليه الإنسان من أجل حفظ حياته)(10).
عيب هوبز -في نظر روسو- يكمن في نظره إلى الإنسان في حالة الطبيعة بعين الإنسان الموجود اليوم داخل المجتمع. هذا العيب منعه من الانتباه، على سبيل المثال، إلى تلك العاطفة النبيلة التي تمتلكها أضعف المخلوقات وهي عاطفة الرأفة. فالرأفة تلطف من ضراوة حب الذات وغلوائها فهي إذ تكون حارة جياشة عند الناس البسطاء -وهم الأقرب إلى الطبيعة- تغدو عند علية القوم، في حال ضعف وضمور إن لم نقل إنها تتلاشى كلية (فعند حدوث الفتن والخصومات في الشوارع يتجمع السوقة، في حين أن الإنسان الحذِر يبتعد ويهرب: إن سفلة القوم والنساء العاملات في المخازن هم من يهب في الواقع إلى فض الخصومات ومنع الناس الشرفاء من الامتثال فيما بينهم)(11).
يكون الإنسان عند روسو أكثر ما يكون طيبة بقدر ما يكون أقرب ما يكون من حالة الطبيعة، ويصبح الإنسان أكثر ما يكون قرباً من الشر -إن لم يقع في الشر كلية- بالقدر الذي تتمكن منه رغبات المجتمع ومقتضياته. ولا غرو أن أول ما يحمل على الشر ويدعو إليه هو حب الامتلاك، فقد ظل الإنسان الأول، وهو على حالة الطبيعة، بعيداً عن الشر قبل أن يعرف شهوة الامتلاك. أما في اليوم الذي عَنَّ فيه لإنسان (أن يسور أرضاً ويقول: هذا لي، ثم وجد أناساً كانوا من البساطة والسذاجة بحيث إنهم صدقوه، في ذلك اليوم كان ذلك الإنسان المؤسس الفعلي للمجتمع المدني. فأي جرائم، وأي اغتيالات، وأي شرور وفظائع كان سيبقى النوع البشري إنسان آخر يكون قد هَبَّ فاقتلع الأوتاد أو رَدِم الحفر وصاح في الناس: احذروا الإصغاء إلى هذا المحتال فإنكم لا محالة مالكون إن أنتم نسيتم أن الثمار للجميع وأن الأرض ليست ملكاً لأحد بمفرده من الناس)(12).
الخلاصة عند روسو أن حالة الطبيعة، إذ كانت في أولها حال خير إذ هي كذلك في ماهيتها، فإنها قد استحالت في آخرها إلى شر لا يمكن قبوله. وإذن تلزم مغادرة هذه الحالة والابتعاد عنها.
يختلف النظر إلى حالة الطبيعة عند الفيلسوف البريطاني ونظيره الفرنسي، ويتباعدان في الحكم عليها ولكنهما يلتقيان عند النتيجة البعيدة التي تقضي بوجوب إقرار صيغة جديدة للوجود الاجتماعي البشري يكون مبدأه الاتفاق والتراضي وقاعدته التعاقد.
ب- التعاقد الاجتماعي
التعاقد اتفاق بين طرفين أو جهتين: اتفاق على احترام جملة قواعد ومبادئ يتم تسطيرها ثم الإعلان عنها. والتعاقد الاجتماعي، شأنه في ذلك شأن كل اتفاق، حصول على شيء في مقابل التنازل عن شيء آخر بكيفية إرادية. وفي النظر إلى طبيعة هذا التنازل وفي فهم معنى الكيفية التي يكون بِها ذلك التنازل، وكذا في تصور حقوق وواجبات كل جهة من الجهتين المتعاقدتين في هذه الأمور الثلاثة كلها تتباين وجهات النظر ويختلف في الفلسفة السياسية الكلاسيكية. وفي هذه النقطة يظهر التوازي الكامل بين ما يقرره صاحب "اﻟﻠﻴﭭﻴﻂﺎن" وما يقوله صاحب "العقد الاجتماعي"، أو قل: إن ذلك التوازي يبدو كذلك للوهلة الأولى غير أن النظر المتأني يحمل على الحكم بغير ذلك كلاًّ أو بعضاً على الأقل.
يميز طوماس هوبز بين (الاتفاق) و(الوفاق): فأما الثاني فطبيعي وتلقائي، وأما الأول فإرادي و(اصطناعي). الوفاق يجعل الحيوانات تعيش في جماعة واحدة من الجنس الذي تنتمي إليه دون أن تقتتل فيما بينها أو يأكل بعضها البعض الآخر. و(الاتفاق) اصطناعي، فهو ليس تلقائياً في البشر، إذ ليس من الطبيعي أن يجتمع البشر دون قتال ودون أن يسعى البعض منهم إلى الإيقاع بالبعض الآخر.
لا يكون الاتفاق إلا عن إرادة وقرار جماعيين يقرهما البشر المجتمعون في ما بينهم، ولا يتم الاتفاق إلا متى وجدت الرغبة المتبادلة بين الأطراف المتوافقة على الاحترام المتبادل لمجموعة من (الأوفاق والمعاهدات). وحيث إن الاتفاق يكون كذلك فإن أول مقتضياته العمل على إفراغه في صيغة قانونية تضبطها (بنود) صريحة وواضحة ويوجهها (ميثاق) علني وصارم. وليس (التعاقد الاجتماعي) سوى مجموع تلك البنود والمعاهدات والميثاق الذي يجمع بين الأفراد المتعاقدين، وبعبارة أخرى فإنه يرى على (التعاقد الاجتماعي) ما يسري على كافة أنواع العقود المعروفة: فهناك شروط باجتماعها يكون العقد صحيحاً وفي الإخلال بِها يغدو العقد باطلاً أو مستحيلاً. من ذلك مثلاً استحالة قيام أوفاق بين البشر والحيوان، أو بين الإنسان والإله اللهم إلا أن يكون ذلك بواسطة (أولئك الذين كلفهم الله، إما عن طريق انكشاف فوق طبيعي أو بواسطة من يمثلونه ويحكمون باسمه ويوجدون تحت إمرته)(13). ومن ذلك استحالة وبطلان كل عقد يشترط فيه أحد الطرفين على نفسه القيام بأمور يعلم، مسبقاً، أنها مستحيلة الوقوع كأن يلتزم مثلاً بعدم مجابهة الشراسة المطلقة والعنف الشديد بالمقاومة والدفاع عن النفس.
يتم التعاقد بين الطرفين: طرف أول يمثل مجموع المتعاقدين وقد تنازلوا بكيفية إرادية وجماعية تنازلاً كاملاً وتاماً عن حقوقهم الطبيعية فأصبحت الإرادات المتعددة إرادة وحدة والأصوات الكثيرة صوتاً واحداً. وطرف ثانٍ يمثله الشخص أو الجمع الذي يُتنازل له، فهو الممثل الأسمى لحصيلة الأصوات التي بايعته وهو المعبر الأوحد عنها: (بحيث إنه يمثل الوحدة في التعدد على نحو لا نستطيع تصور وقوعها على نحو غيره)(14). ولذلك فإن السلطان الذي يتوافر لهذا الشخص، بموجب القاعدة التي كان التعاقد عليها، سلطاناً كاملاً مُطلقاً لا سبيل إلى الاعتراض عليه، بل ولا معنى لذلك الاعتراض.
إن هذا النحو من النظر إلى التعاقد الاجتماعي، وخاصة ما ينتج عنه من اعتبار الطرف الذي يسلم الجميع سلطهم الطبيعية وحقوقهم الكاملة فيصبح صاحب حق مطلق كامل في نيابته عن الجماعة التي يمثلها، هو ما جعل الفيلسوف الإنجليزي منظراً للسلطة المطلقة من جهة الحاكم ومنظراً لتنازل الشعب أو الجمع من جهة أخرى، وتلك إذن هي الانتقادات السلبية التي يواجه بِها هوبز الفيلسوف الفرنسي روسو في "العقد الاجتماعي".
يرى جان جاك روسو أن طوماس لا يختلف، في واقع الأمر، عن الرأي الذي يأخذ به فقهاء الحق الطبيعي. وفقهاء الحق الطبيعي، ممثلين في غروشيوس Grotius من جهة، وبوفندروف Pufendorf من جهة أخرى، يذهبون إلى أن البشر، إذ يرغبون في الخروج من الحالة البئيسة التي يوجدون عليها في حالة الطبيعة فإنه يتعين عليهم، في إمضاء التعاقد الذي سيؤسسهم لاجتماعهم السياسي، الالتزام بأحكام ميثاقين اثنين يتكاملان فيما بينهما تكاملاً تاماً ويسلم أحدهما إلى الآخر ضرورة: (ميثاق التعاون أو الاتِّحاد) من جانب أول و(ميثاق الخضوع) من جانب ثانٍ. فأما الميثاق الأول فيعني حصول القرار الإرادي الذي يتوصل إليه البشر فيؤمنون بوجوب عقد اتفاق على الوصول إلى الغاية المنشودة، وهي شيوع الآمن في المجتمع وتحقيق الطمأنينة في النفوس. وأما الاتفاق الثاني (اتفاق الخضوع) فبموجبه يحفظ الأول ويقوى وبه تكون القوة الرادعة التي يبايعها الإنسان عن طواعية ويتنازل لها عن حقه في تلقائية وسرور. رب قائل يقول: أليست هذه هي العبودية بعينها؟ وفقيه الحق الطبيعي لا يجد حرجاً في الجواب بالإيجاب، بل إنه يرى في قبول العبودية امتيازاً يشرحه على النحو التالي: كان للمحارب، في القديم، كامل الحق في قتل خصمه متى تمكن منه، غير أن للمغلوب أن يطلب من الغالب أن يبقيه على قيد الحياة في مقابل التنازل الكامل له عن حريته. ومتى جاز هذا الأمر للشخص الواحد فإنه يجوز للشعب كما يجوز للجماعة من الناس ما دام هنالك ميثاق ممضي من الجهتين. وجان جاك روسو يحتج على هذا الموقف (الذي يرى - كما أشرنا - أن طوماس هوبز يتبناه عملياً) فيقول إن الشعب (يظل شعباً قبل أن يهب نفسه للملك ملكاً خالصاً. فهذه الهبة ذاتها فعل مدني، وهي تقتضي شورى شعبية. والحق أن الأجدر بنا، قبل أن نقوم بفحص الفعل الذي ينتخب به شعب ما ملكه أن نقوم بفحص الفعل ذاته الذي يكون به شعب ما شعباً حقيقة. ذلك أن هذا الفعل الأخير -بحسبانه فعلاً متقدماً وسابقاً- هو الأساس الحق للمجتمع)(15).
المبدأ المقبول في التعاقد الاجتماعي عند روسو، والأصل الأصيل الذي يكون فعل التعاقد هو الإرادة الحرة. الأسرة أساس الاجتماع البشري، فهي الخلية الأولى، ولكن إذا كان الأبناء يوجدون في الأسرة بكيفية تلقائية في السنوات الأولى من طفولتهم فإنهم يستمرون في الوجود داخل الأسرة بفعل قرارهم الإرادي متى أمكنهم أن يشبوا عن الطوق. تلك هي الفكرة الأولى التي يستهل بِها روسو كتابه "في العقد الاجتماعي". وقارئ الكتاب يجد أن عبارة (الإرادة العامة) هي اللازمة التي تتكرر في كل الأقسام الأربعة، والإرادة العامة محصلة الإرادات كلها، إرادات الأفراد المتعاقدين، وليس مجرد حصيلة أو إضافات. إنها شيء يعلو على المجموع ويتجاوزه، ولكنه الروح التي تحرك فعل التعاقد.
ج- السيادة
يطرح القول في السيادة في الفلسفة السياسية الكلاسيكية أسئلة ثلاثة حددت الإجابة عنها مواقف الفلاسفة وبينت جوانب اختلافهم: ما مصدر السيادة؟ ما طبيعة السيادة؟ ما حدود السيادة؟ وقياساً على ما قمنا به في حديثنا عن التعاقد الاجتماعي من حيث اعتبار بسط وجهة نظر فقهاء الحق الطبيعي توطئة ضرورية لفهم قول طوماس هوبز فنحن نسلك نفس المسيرة، قبل أن نعرض لوجهة نظر روسو.
يذهب فقهاء الحق الطبيعي إلى القول: بأن السيادة موجودة، في الأصل، في كل فرد من الأفراد على حدة في حالة الطبيعة (شأنها في ذلك شأن الحق الطبيعي). وحيث إن حالة الطبيعة غير ممكن استمرارها (للأسباب التي رأينا مدرسة فقهاء الحق الطبيعي تبسطها) فقد وجب التخلي عن السيادة التي يحملها كل إنسان في شخصه ولزم التنازل عنها للشخص الذي يتم (التعاقد الاجتماعي) معه. هكذا يذهب غروشيوس إلى القول إن السيادة (يمكن تفويتها، شأنها في ذلك شأن كل الأشياء الأخرى، إلى هذا الشخص الذي تنتسب إليه على الحقيقة). وهذا الشخص هو ذاك الذي أمضى معه (ميثاق الخضوع) وكذا (ميثاق التعاون) (كما رأينا). والرأي عند بوفندورف أنه (حيث يتم تتويج الملك فإن السلطان الأسمى لا يبقى بعد ذلك بين يدي الجمع العام المكون من الشعب برمته، غير أن هذا القول لا يعني أن ذلك الشعب لا يغدو سوى كثرة كثيرة من الناس لا رباط بينها؛ بل إنه يظل دائماً وأبداً جسداً واحداً ووحيداً).
متى أنزلنا عن قول فقيه الحق الطبيعي رداء الوقار الذي تريد المدرسة التي ينتمي إليها أن تموه به حقيقة الخضوع والخنوع، ومتى أزلنا عنه غلالة الاختيار الوهمي الذي تريد أن تلفه بِها فنحن نكون أمام نظرية تنزع عن الشعب كل سلطة وتجد للحكم المطلق كل شرعية وتبرير، وبالتالي فهي تجسد مبدأ التعاقد الاجتماعي ذاته من حيث اقتضاؤه للعقل والحرية والمواطنة واعتباره الإنسان قيمة عليا مطلقة. فأي مذهب يذهب الفيلسوف الإنجليزي هوبز في حديثه عن السيادة؟ لنقرأ النص التالي:
(إن هذه الكثرة الكثيرة من الناس، وقد تَمّ توحدها في شخص واحد أحد، هي ما يدعى جمهورية (Respublica) كما يدعى كذلك في اللغة اللاتينية مدينة (Civitas)، هي الكيفية التي يتكون بِها هذا اﻟﻠﻴﭭﻴﻂﺎن (Léviathan) أو لنقل إذا شئنا ذلك الإله الهالك الذي ندين له، في ظل الإله الخالد بأمننا وهنائنا (..) ففيه وحده تكمن روح الجمهورية، وقد يجوز لنا أن نعرفه على النحو التالي: إنه شخص واحد أحد جعلت منه كثرة كثيرة من الناس، بموجب مواثيق أقروها بينهم، صانع أفعالهم كلها فيحق له أن يتحكم في قواهم كلها، وأن يتصرف في أموالهم كاملة على نحو ما يبدو له الأنسب لهنائِهم (..) وصاحب هذه الشخصية وحاملها هو من ندعوه صاحب السيادة، وهو من نقول عنه إنه السلطان الأسمى، وأنه ما من إنسان إلا وهو يدخل في عداد رعيته)(16).
الحق أن ما ينتهي إليه طوماس هوبز في الحديث عن السيادة لا يبتعد كثيراً عما يقصده فقهاء الحق الطبيعي بالحديث عنها، فهي تصير إلى قوة واحدة مطلقة يتم لها تفويت الحقوق الطبيعية لكافة المتعاقدين وإن اختلفت العبارة عن خطاب غروشيوس وتباينت الصياغة نوعاً عما يكتبه بوفندورف. أيّاً ما كان قول هوبز إن الجمهورية هي (اﻟﻠﻴﭭﻴﻂﺎن) وهي (الإله الهالك)، وهي (صاحب السيادة) أو إنها (صاحب السلطان الأسمى) فإن العبارات هذه تصير في نهاية الأمر إلى معنى واحد يشملها: هو القول بتفويت السيادة من كل أفراد المتعاقدين باعتبارهم طرفاً أولاً في التعاقد إلى طرف واحد هو الرئيس أو السلطة العليا الوحيدة.
أما عند روسو فالشأن مختلف كلية، بل إنه مخالف تماماً. يجعل الفيلسوف الفرنسي من الإرادة العامة روح التعاقد كما رأينا ويعتبر الشعب قاعدة التعاقد وأساسه بحسبانها تجلياً للإرادة العامة وبحسبان اجتماعه تجلياً للحرية معاً وباعتبار المواطنة رباطاً مقدساً يشد مجموع أفراد الشعب بعضها إلى بعض. واعتباراً لهذه المعاني كلها فإن السيادة تمثل العماد الذي يكسب نظرية التعاقد الدلالة والمعنى. لذلك لم يكن من الغريب في شيء أن نجد أن أغلب فصول الكتاب الثاني من الكتب الأربعة التي يتكون منها مؤلف روسو تخصص للقول في السيادة. وحيث لا يتسع المجال لبسط نظرية روسو في السيادة كاملة فلا أقل من ذكر خاصيتين اثنتين:
الخاصية الأولى هي أن السيادة لا تقبل أن تكون موضع تفويت أبداً. يقول روسو في هذا الصدد: (في الإمكان نقل الحكم من جهة إلى أخرى، لكن الإرادة ذاتها لا تنتقل) والإرادة (أو الإرادة العامة بالأحرى) لا تنفك (كما يقول متكلمة الإسلام) عن السيادة، فكلاهما وجهان لعملة واحدة.
الخاصية الثانية هي أن السيادة (لا تقبل التجزئة للسبب ذاته الذي يستحيل بموجبه أن تكون محل تنازل أو تفويت. ولا يخلو الأمر من اعتبارين: فإما أن الإرادة تكون عامة وإما أنها تكون خلاف ذلك. إما أن تكون إرادة الشعب برمته، وإما أن تكون إرادة جزء منه فحسب. فأما في الحالة الأولى فإنها تكون تعبيراً عن السيادة فهي تفعل فعل القانون. وأما في الحالة الثانية فإن الإرادة المعلن عنها لا تكون سوى إرادة خاصة، فهي لا تعدو أن تكون قراراً أو مرسوماً)(17).
لا غرو أن التباين بين روسو وهوبز يبدو جلياً، فقد لا يكون القارئ في حاجة إلى إعمال فكر كثير لتبينه والوقوع على مواطنه. لذلك رأينا (التقليد الفلسفي) يقضي باعتبار الفيلسوف البريطاني ومواطن جنيف (ذاك هو النعت الذي كان روسو يفضل أن يطلقه على نفسه فهو يوقع به كتاباته عموماً) يقفان على طرفي نقيض. غير أننا ندعو القارئ إلى أن يستشف الرباط الخفي الذي يجمع بين الرجلين فيجعلهما يدوران في فلك واحد وينتسبان من حيث القصد السياسي الخفي إلى نفس الأفق.
فأما الفلك الواحد الذي يدوران حوله معاً فهو ذاك الذي يجوز التعبير عنه بنعت (الاصطناعية) على النحو الذي رأينا فيه -في حديثنا السابق- تمييز هوبز بين (الوفاق) (وهو أمر تلقائي طبيعي، يكون بين الحيوانات ويتعذر وجوده بين بني الإنسان) وبين (الاتفاق) (وهو افتعال أو اصطناع، فهو ليس طبيعياً ولا تلقائياً). وبالقدر الذي يلاحظ فيه القارئ أن الفيلسوف البريطاني كان صريحاً على البحث في شروط الصحة في العقد ومظاهر الفساد (وقد أوردنا له نصاً في ذلك) كما يلاحظ القارئ من هوبز تدقيقاً فقهياً، قانونياً، في معاني الميثاق، والعهد، والأوفاق، والقانون، والشروط.. بنفس القدر نجد عند جان جاك روسو انشغالاً شديداً، وجهداً مضنياً، في الحديث عن الحكومة وتنظيمها وعن القانون والقرار المرسوم والفروق بين هذه الثلاثة الأخيرة. ذاك هو ما يمكن نعته بهيكل التعاقد أو مجموع أجهزته التنظيمية، في مقابل ما يكسب الأجهزة أو الهيكل المغزى والدلالة وهو الإرادة العامة.
أما الأفق المشترك الذي نرى الرجلين ينتسبان إليه (مع كل الاختلافات الواضحة أو الظاهرية على الأقل) فيدل عليه التضافر القائم بين أمرين اثنين يشغلان الرجلين فيملئان عليهما وجدانهما.
الأمر الأول هو وجوب التشريع لما كان مخالفاً لـ(حالة الطبيعة)، أي ما كان مناسباً لـ(حالة المجتمع). وقد لا تخفى على فطنة القارئ المطلع على أحوال كل من بريطانيا وفرنسا في القرن السابع عشر أن (حالة الطبيعة) هي -على نحو من الأنحاء- التعبير المعكوس عن حال واقعي وليس افتراضي عاشه كل من البلدين ويقصد برجال الحرب الأهلية في بريطانيا، وحال الحروب الكثيرة المتصلة في مقاطعات فرنسا في الفترة ذاتها.
والأمر الثاني هو التشريع لـ(حالة المجتمع) (الاجتماع الإنساني المقبول، الحال البديل عن الحرب والفوضى) والتشريع للسلطة السياسية خارجاً عن سلطة اللاهوت وسيطرة الكنيسة، أو لنقل، في عبارة أخرى، التشريع للسلطة السياسية باعتبارها سلطة بشرية يؤول الأمر فيها إلى (المواطنين) لا إلى (الرعايا) للأسباب التي تحدثنا بِها (في القسم الأول من هذا البحث) عن الميلاد المزدوج للتأسيس الاجتماعي والتكون السياسي الحديث.
في هذا النحو من النظر يبدو أن كلاًّ من هوبز وروسو، مع التعارض الظاهر (أو الظاهر بالأحرى) بين نظر كل منهما، ومع عنف ردود روسو على الفيلسوف البريطاني، ومع شيوع التقليد الذي يقضي باعتبار صاحب "اﻟﻠﻴﭭﻴﻂﺎن" منظراً لسلطة الحكم المطلق، واعتبار مواطن جنيف فيلسوفاً للشعب أو متحدثاً