دور علم السياسة في فهم الواقع العربي
د. أمحند برقوق،
قسم العلوم السياسية و العلاقات الدولية (جامعة الجزائر) و المعهد الديبلوماسي و العلاقات الدولية (وزارة الخارجية)
يشكل علم السياسة احد المجالات العلمية الأكثر حيوية و حينية، إذ انه يقوم على منطق الشك النقدي التطوري الذي يساعد على بناء حوارات مناظيرية متكررة. كما يساعد أيضا على بناء دراسات مقارنة عبر وطنية أو عبر جهوية أو عبر ثقافية و عالمية ... .إنه علم لا يهتم فقط "بالرجل السياسي " أو بالمؤسسات السياسية" ذات الصفة السلطوية أو القرارية أو بطبيعة الأنظمة السياسية أو بطبيعة الدولة (فيدرالية أو وحدوية ) أو بطبيعة النظام الإداري أو بطبيعة النظام الحزبي أو النظام الانتخابي أو طبيعة البرلمان أو الصلاحيات الدستورية أو الفعلية المخولة لكل سلطة أو مؤسسة أو مدى استقلالية القضاء أو مدى حركية المجتمع المدني ... ولكن أيضا بطبيعة الاتصال السياسي ، بالثقافة السياسية، التنشئة أو مؤسساتها و المسائل المرتبطة بالسياسة الخارجية ... وبكل حركيات العلاقات الدولية .... إنه بالفعل علم شامل و مركب و معقد .
إنه من الموضوعي بالتالي أن يكون عدد متزايد من المحاولات التنظيرية في مجال علم السياسية مما يخلق فوضى معرفية epistemological Confusion وتضارب مفاهيم conceptual cacophony ، ولكن أيضا صعوبة في تحديد دقيق لتعريفات إجرائية لمفاهيم قديمة -جديدة مثل الدولة، السلطة ، الديمقراطية ....المجتمع المدني. و هذا ما يعمق من صعوبة استخدام توافقي (أو بالإجماع ) لأدوات تحليلية مشتركة مما ينعكس على عدم الاستقرار في البناء المعرفي لعلم السياسة .
كما أن الطبيعة المتعددة و المتنوعة للمجتمعات، كمكونات ذاتية أو لمكوناتها الجزئية، جعل من الصعب بمكان تطوير انساق تحليلية مستقرة و قادرة لان تفهم السببية أو الخصوصية أو الاستثناء ... فكثيرا ما انتقد علم السياسة باسم المركزية الثقافية Ethnocentrism أو بعدم القدرة على تحديد البناءات النفسية و الإدراكية التي تحرك قناعات أو صور نمطيه سلبية Stereotypes اتجاه أو ضد الأخر الثقافي أو الديني أو العرقي. و هذا ما جعل العديد من الباحثين يسعون إلى بناء غط تحليلي جديد أكثر شمولية باسم العولمة القيمية كحقوق الإنسان .
• نحو علم سياسة جديد؟
لقد دفعت عولمة حقوق الإنسان إلى بروز حركيات لترقية الديمقراطية المشاركاتية و الحكم الراشد على حساب المعايير و القواعد التقليدية للسيادة و مبدأ عدم التدخل و التساوي القانوني للدول، و ذلك بالدعوة لبناء نمطية قيمية (بناء على النسق الحقوقي العالمي الذي تمت عولمته من خلال أرضية فيينا 1993) تلتزم الدول بتطبيقها و حمايتها مهم اختلفت مشاربها التاريخية أو الثقافية أو الدينية . و هذا ما اعتبره فوكوياماFukuyama و أنصاره فرصة تاريخية لتخليص العالم من تناقضات السياسة التي تفرض التسلط والشمولية و بناء نموذج عالمي وتوافقي شامل global convergence model و القائم على ثلاثة أبعاد :
1- الحقوق المدنية و ذلك من خلال غياب الرقابة ( أو الحدود ) على الفرد من حيث شخصيته أو قناعاته أو أفكاره أو معتقداته أو ميوله أو انتماءاته (فكرة الفردنة individualization و الاستقلالية Autonomyو هذا ما ذهب إليه تاريخيا (Aristotle & Sophocles
2- الحقوق السياسية و تعني غياب رقابة الدولة أو مؤسساتها على الشراكة السياسية سواء من حيث إنشاء أحزاب سياسية أو الانخراط فيها أو إنشاء جمعيات مدنية أو الانخراط فيها، حق الفرد المواطن في الترشح أو التصويت في انتخابات حرة و نزيهة و تعددية و منتظمة .
3- الحقوق الدينية و تعني غياب الرقابة على ممارسة المعتقدات الدينية أو التعبير عنها (حرية المعتقد هي الفكرة الكالفينية لدين الدولة.
و يظهر جليا مما سبق، أن هذه العناصر التأسيسية ما بعد الحداثية تقوم على منطق الغربنة Occidentalism حسب المفكر الإيراني جلال الدين على احمد، أي محاولة نشر القيم الغربية عبر العالم باسم التوافق أو الاندماج في عصر ما بعد القيم ... بشكل تشابه مع نموذج فوكوياما للتاريخ العالمي للإنسانية القائم على المنطق الهيجلي القائل بان التاريخ هي عولمة عقلانية العقلانية ذاتها... لان الحرية لا يمكن أبدا فصلها عن العقلانية .....فالإنسان يتمتع بالحياة عندما يختار بحرية وعقلانية ....انه منطق السلم الأبدي لكانط .
وباستخدام منطق العقلانية، ظهر مفهوم و اختصاص الهندسة السياسية الذي يهدف إلى بناء نموذج سياسي ديمقراطي مشاركاتي صالح لكل مجتمع انطلاقا من فكرة عالمية حقوق الإنسان و تكاملها لأصلها الإنساني المشترك و ضرورة جعل الفرد – المواطن أساس العمل و التنظيم السياسيين و ذلك من خلال تمكين الإنسان من المبادرة السياسية الحرة بالمشاركة.
فالمشاركة السياسية هي المحدد السلوكي المحوري المعرف لطبيعة النظام السياسي و ذلك من خلال تأسيس تعددية حزبية قادرة على إنتاج معارضة فعالة و ناجعة توازن الحزب أو الأحزاب الحاكمة خدمة للصالح العام أو تنتج تركيبة برلمانية تعددية تصبح قوة اقتراح و مبادرة قانونية و تشريعية و لكن أيضا قادرة على فرض المسؤولية بالجزاء السياسي على الحكومة لكل أعضائها، مع جعل الانتخابات (المنتظمة و التعددية و الحرة والنزيهة ) مسارا مقيما لمدى النضج الديمقراطي في الانتخابات حسب البرنامج و الفعالية لأن الانتخابات عملية تأسيس لمشروعية /عدم مشروعية في الحكم... و الفعالية إن كانت سلبية فهي من تنهي في المحصلة الأخيرة أية مصداقية لهاا .
كما تقر الهندسة السياسية بضرورة جعل النظام السياسي شفافا و أمينا (الحكم الراشد ) في ظل و جود دولة الحق و القانون و قضاء مستقل يفرض الاحترام و الإنصاف ... و عدالة في توزيع الموارد و الثروات و الأحكام .... إنه منطق مازال غريبا عن عالمنا العربي .
• علم السياسة الجديد و الواقع السياسي العربي
إذا استخدمنا نظرة مسحية للعالم العربي يمكن القول إن أنظمتها متباينة من حيث طبيعتها الدستورية (ملكية، جمهورية ، إمارة ) وطبيعتها السلطوية ( أنظمة رئاسية أو شبه رئاسية، إدارة جماعية للحكم كما في حالة الإمارات العربية المتحدة) أما من حيث الطبيعة الديمقراطية فهنالك إجماع على غيابها في معظم الحالات و ضعفها في أحيان قليليه ( الأردن، لبنان، الجزائر‘ الكويت ....) على مستوى المشاركة الديمقراطية خاصة و انه في 20حالة من 22 (ماعدا لبنان و الكويت ) هنالك ضعف واضح في الأداء المستقل للبرلمانات مما جعل أي حديث عن فصل بين السلطات أو تباين سلطوي امرأ غير موضوعيا و لا جديا .
كما أن اغلب هذه الدول تحكم منذ عقود من طرف نفس النخبة السياسية بل و إن بعضهم ورث السلطة الشعبية لإبنه (سوريا ) أو يهدف لان يورثها (مصر / ليبيا) و هذا ما يفقد المواطنة معناها خاصة وأ الجيش تراجع دوره في تقريب كل الحالات في ظل غياب بدائل مستقلة نظرا لوجود مجال ضعيف من الحرية و انتشار الأمية و القناعة بالقدرية السياسية Political Fatalism بأنه محتوم عدم العيش في الديمقراطية ... أفكار تغذيها تيارات سلطوية تدعو لعدم ممارسة السياسة و الولاء للحكم ... انه تزاوج الجهل مع القهر ...و التطرف في السلبية القدرية .
و من جهة أخرى فالعالم العربي مرهون بانقسامات و انشقاقات توظف ضده من طرف فواعل دولية لها مصالح حيوية و أخرى إستراتيجية بالضغط على أولا للإصلاح (سوريا، ليبيا، تونس ...الجزائر ) مع مساندة دول لا تقل تسلطا أو شمولية (مصر ، السعودية... ) لخدمة مصالحها سواء بالربط بين القروض و المساعدات و ضرورة إدخال خيارات تكيفيه أو حتى تجميلية على منظومة الحكم. كما تساند هذه الفواعل الأجنبية ماديا و تأطيريا على بروز تيارات و قناعات و أفكار و جمعيات و أحزاب أكثر قربا من مواقفها ( اعتقال سعد الدين الابراهيم في مصر أكثر من مرة بسبب هذه التهمة )، أو حتى إطلاق مبادرات هادفة لإعادة تشكيل المنطق السياسي في المنطقة العربية من أمثال برامجMEDA بالنسبة للاتحاد الأوروبي أو مبادرة الشراكة من اجل الشرق الأوسط الأمريكية MEPI . و لكن مع ذلك فانه لا يمكن تصور أي تقدم ديمقراطي في ظل غياب فعلي لدولة الحق و القانون المكرسة لأولوية منطق الإنسان على المنطق الأمني للدولة .
الخاتمة :
بإستخدام حركي لأبجديات التحليل السياسي في عالم ما بعد الحداثة نستخلص انه في ظل غياب القيمة المركزية لحقوق الإنسان و حاجاته في التصور العام للدولة و النظام السياسي فانه لا يمكن بناء ديمقراطية خالقه للاستقرار و الرفاه .... لان غياب الحقوق تلغي العدالة و تنتج التعسف و الفساد ... وتنهك الدولة و المجتمع ....و يكثر الإحباط و التذمر و العنف .... و يحتمل التدخل الأجنبي المباشر أو الضاغط ...فعلى العرب أن يتيقنوا بأنه لا تنمية للوطن و خدمة عامة و صالح عام إلا في كنف عدالة توزيعية و قانون يسري على الجميع و مركزية حقوق الإنسان في كل السياسات العامة للدولة.