سورة الفاتحةمكية وآياتها سبع آيات باتفاق أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
تفسير الاستعاذة:
المعنى: أستجير بجانب الله، وأعتصم به من شر الشيطان العاتي المتمرد، أن يضرني فى دينى أو دنياى، أو يصدنى عن فعل ما أمرت به، وأحتمى بالخالق السميع العليم من همزه ولمزه ووساوسه، فإن الشيطان لا يكفه عن الإنسان، إلا الله رب العالمين. عن النبى (ص) أنه كان إذا قام من الليل، استفتح صلاته بالتكبير، ثم يقول: (أعوذ الله السميع العليم، من الشيطان الرجيم، من همزه ونفخه ونفثه. (أخرجه أصحاب السنن).
تنبيه:لفظة "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" ليست آية قرآنية، وإنما هو أدب أدبنا الله به، عند إرادة قراءة القرآن بقوله سبحانه
[فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم] فلهذا لم تكتب فى القرآن الكريم بخلاف البسملة.
بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير البسملة:
أبدأ بتسمية الله وذكره قبل كل شئ، مستعيناً به جل وعلا فى جميع أموري، طالباً منه وحده العون، فإن الرب المعبود، ذو الفضل والجود، واسع الرحمة كثير التفضل والإحسان، الذى وسعت رحمته كل شئ، وعم فضله جميع الأنام.
تنبيه:
[بسم الله الرحمن الرحيم] افتتح الله بهذه الآية سورة الفاتحة وكل سورة من سور القرآن – ما عدا سورة التوبة – ليرشد المسلمين إلى أن يبدأوا أعمالهم وأقوالهم باسم الله الرحمن الرحيم، التماساً لمعونته وتوفيقه، ومخالفة للوثنيين الذين يبدأون أعمالهم بأسماء آلهتهم أو طواغيتهم فيقولون: باسم اللات، أو باسم العزى، أو باسم الشعب، أو باسم هبل.
قال الطبرى: "إن الله تعالى ذكره وتقدست أسماؤه، أدب نبيه محمداً (ص) بتعليمه ذكر أسمائه الحسنى، أمام جميع أفعاله، وجعل ذلك لجميع خلقه سنة يستنون بها، وسبيلاً يتبعونه عليها، فقول القائل: بسم الله الرحمن الرحيم إذا افتتح تالياً سورة، ينبئ عن أن مراده: أقرأ بسم الله، وكذلك سائر الأفعال". تفسير سورة الفاتحة
بين يدى السورة الكريمة:هذه السورة الكريمة مكية، وآياتها سبع بالإجماع، وتسمى "الفاتحة" لافتتاح الكتاب العزيز بها، حيث إنها أول القرآن فى (الترتيب) لا فى (النزول)، وهى – على قصرها ووجازتها – قد حوت معانى القرآن العظيم، واشتملت على مقاصده الأساسية بالإجمال، فهى تتناول أصول الدين وفروعه، تتناول العقيدة، والعباد، والتشريع، والاعتقاد باليوم الآخر، والإيمان بصفات الله الحسنى، وإفراده بالعبادة، والاستعانة والدعاء، والتوجه إليه جل وعلا بطلب الهداية إلى الدين الحق، والصراط المستقيم، والتضرع إليه بالتثبيت على الإيمان ونهج سبيل الصالحين، وتجنب طريق المغضوب عليهم والضالين، وفيها الأخبار عن قصص الأمم السابقين، والاطلاع على معارج السعداء ومنازل الأشقياء، وفيها التعبد بأمر الله سبحانه ونهيه، إلى غير ما هنالك من مقاصد وأغراض وأهداف، فهي كالأم بالنسبة لبقية السور الكريمة، ولهذا تسمى "أم الكتاب" لأنها جمعت مقاصده الأساسية.
فضلها:أ – روى الإمام أحمد فى المسند أن "أبي بن كعب" قرأن على النبى (ص) أم القرآن فقال رسول الله (ص): "والذى نفسى بيده ما أنزل فى التوراة، ولا فى الإنجيل، ولا فى الزبور، ولا فى الفرقان مثلها، هى السبع المثانى والقرآن العظيم الذى أوتيته" فهذا الحديث الشريف يشير إلى قوله تعالى فى سورة الحجر:
[ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم].
ب- وفى صحيح البخارى أن النبى (ص) قال لأبى سعيد بن المعلى: "لأعلمنك سورة هى أعظم السور فى القرآن: الحمد لله رب العالمين، هى السبع المثاني، والقرآن العظيم الذى أوتيته".
التسمية:تسمى "الفاتحة، وأم الكتاب، والسبع المثاني، والشافية، والوافية، والكافية، والأساس، والحمد" وقد عددها العلامة القرطبي وذكر أن لهذه السورة الكريمة اثنى عشر اسماً.
اللغة: [الحمد] الثناء بالجميل على جهة التعظيم والتبجيل، مقروناً بالمحبة،وهو نقيض الذم وأعم من الشكر، لأن الشكر يكون مقابل النعمة بخلاف الحمد
[الله] اسم علم للذات المقدسة لا يشاركه فيه غيره، قال القرطبي: هذا الاسم
[الله] أكبر أسمائه سبحانه وأجمعها، وهو اسم للموجود الحق، الجامع لصفات الإلهية، المنعوت بنعوت الربوبية، المنفرد بالوجود الحقيقي لا إله إلا هو سبحانه
[رب] الرب: مشتق من التربية وهى إصلاح شؤون الغير ورعاية أمره، قال الهروي: "يقال لمن قام بإصلاح شئ وإتمامه: "قد ربه، ومنه الربانيون لقيامهم بالكتب" (تفسير القرطبى 1/133) والرب يطلق على عدة معان وهى "المالك، والمصلح، والمعبود، والسيد المطاع"
[العالمين] العالم: اسم جنس لا واحد له من لفظه كالرهط، وهو يشمل: الإنس والجن واللائكة والشياطين كذا قال الفراء، وهو مشتق من العلامة لأن "العالم" علامة على وجود الخالق جل وعلا
[الرحمن الرحيم] صفتان مشتقتان من الرحمة، وقد روعى في كل من
[الرحمن] و
[الرحيم] معنى لم يراع فى الآخر، فالرحمن بمعنى عظيم الرحمة لأن "فعلان" صيغة مبالغة فى كثرة الشيء وعظمته، ولا يلزم منه الدام كغضبان وسكران، والرحيم بمعنى دائم الرحمة لأن صيغة "فعيل" تستعمل فى الصفات الدائمة، ككريم وظريف فكأنه قيل: العظيم الرحمة، الدائم الإحسان.
قال الخطابي: الرحمن ذو الرحمة الشاملة التى وسعت الخلق فى أرزاقهم ومصالحهم، وعمت المؤمن والكافر، والرحيم خاص بالمؤمن كما قال تعالى:
[وكان بالمؤمنين رحيما]ٍ ،
[الدين] الجزاء ومنه الحديث "كما تدين تدان" أى كما تفعل تجرى
[نعبد] قال الزمخشري: العبادة أقصى غاية الخضوع والتذلل، ولذلك لم تستعمل إلا فى الخضوع لله تعالى، لأنه مولي أعظم النعم فكان حقيقاً بأقصى الخضوع
[الصراط] الطريق وأصله بالسين من الاستراط بمعنى الابتلاع، كأن الطريق يبتلع السالك، قال الشاعر:
شحنا أرضهم بالخيل حتى تركناهم أذل من الصراط
[المستقيم] الذي لا عوج فيه ولا انحراف "آمين" أى استجب دعاءنا، وهي ليست من القرآن الكريم إجماعاً، ولهذا لم تكتب فيه، وإنما هى من تعليم رسول الله وهديه.
التفسير:علمنا البارى جل وعلا كيف ينبغى أن نحمده تعالى ونقدسه، ونثني عليه بما هو أهله فقال
[الحمد لله رب العالمين] أي قولوا يا عبادي إذا أردتم شكري وثنائي الحمد لله، اشكروني على إحساني وجميلي إليكم، فأنا الله ذو العظمة والمجد والسؤدد، المتفرد بالخلق والإيجاد، رب الإنس والجن والملائكة، ورب السموات والأرضين، فالثناء والشكر لله رب العالمين، دون ما يعبد من دونه
[الرحمن الرحيم] أي الذي وسعت رحمته كل شئ وعم فضله جميع الأنام، بما أنعم على عباده من الخلق، والرزق، والهداية إلى سعادة الدارين، فهو الرب الجليل عظيم الرحمة دائم الإحسان
[مالك يوم الدين] أي هو سبحانه المالك للجزاء والحساب، المتصرف فى يوم الدين تصرف المالك في ملكه
[يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله]
[إياك نعبد وإياك نستعين] أي نخصك يا ألله بالعبادة، ونخصك بطلب الإعانة، فلا نعبد أحدا سواك، لك وحدك ربنا نذل ونخضع، ونستكين ونخشع، وإياك ربنا نستعين على طاعتك ومرضاتك، فإنك المستحق لكل إجلال وتعظيم، ولا يملك القدرة على عوننا أحد سواك
[إهدنا الصراط المستقيم] أي دلنا وأرشدنا يا رب إلى طريقك الحق، ودينك المستقيم وثبتنا على الإسلام الذي بعثت به أنبياءك ورسلك، وأرسلت به خاتم المرسلين، واجعلنا ممن سلك طريق المقربين
[صراط الذين أنعمت عليهم] أي طريق من تفضلت عليهم بالجود والإنعام، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا
[غير المغضوب عليهم ولا الضالين] أي لا تجعلنا يا ألله من زمرة أعدائك الحائدين عن الصراط المستقيم السالكين غير المنهج القويم، من اليهود المغضوب عليهم، أو النصارى الضالين، الذين ضلوا عن شريعتك القدسية، فاستحقوا الغضب واللعنة الأبدية. اللهم آمين.
البلاغة:1- [الحمد لله] الجملة خبرية لفظاً، إنشائية معنى أي قولوا "الحمد لله" وهى مفيدة لقصر الحمد عليه تعالى كقولهم: الكرم فى الرعب.
2- [إياك نعبد وإياك نستعين] فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب، ولو جرى الكلام على الأصل لقال: إياه نعبد، وتقديم المفعول يفيد القصر – أعني الاختصاص – أي لا نعبد سواك كما فى قوله تعالى [وإياي فارهبون].
3- قال فى البحر المحيط: وفى هذه السورة الكريمة من أنواع الفصاحة والبلاغة أنواع:
الأول: حسن الافتتاح وبراعة المطلع، حيث بدأ بجوامع الشكر والثناء.
الثانى: المبالغة فى الثناء لإفادة "ال" الاستغراق.
الثالث: تلوين الخطاب إذ صيغته الخبر، ومعناه الأمر، أي قولوا الحمد لله.
الرابع: الاختصاص فى قوله [الله] أي الحمد كله خاص به جل وعلا.
الخامس: الحذف كحذف "صراط" من قوله [غير المغضوب عليهم] تقديره غير صراط المغضوب عليهم وغير صراط الضالين، أى غير طريق الفريقين.
السادس: التقديم والتأخير فى [إياك نعبد].
السابع: التصريح بعد الإبهام [الصراط المستقيم] ثم فسره بقوله:
[صراط الذين أنعمت عليهم].
الثامن: الالتفات فى [إياك نعبد وإياك نستعين].
التاسع: طلب الشئ، والمراد به دوامه واستمراره فى [إهدنا الصراط] أى ثبتنا عليه، كقوله تعالى
[يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله] أى اثبتوا على الإيمان.
العاشر: السجع المتوازى فى قوله: [الرحمن الرحيم، الصراط المستقيم] وقوله: [نستعين.. الضالين].
الفوائد:الأولى: الفرق بين [الله] و [الإله] أن الأول اسم علم للذات المقدسة ذات البارى جل وعلا، ومعناه المعبود بحق، والثاني معناه المعبود بحق أو باطل، فهو اسم يطلق على الله تعالى وعلى غيره، بخلاف "الله" فإنه المعبود بحق.
الثانية: وردت الصبغة بلفظ الجمع "نعبد ونستعين" ولم يقل "إياك أعبد وإياك أستعين" بصيغة المفرد، وذلك للاعتراف بقصور العبد عن الوقوف فى باب ملك الملوك، فكأنه يقول: أنا يا رب العبد الحقيق الذليل، لا يليق بي أن أقف هذا الموقف فى مناجاتك بمفردي، بل أنضم إلى سلك المؤمنين الموحدين، فتقبل دعائى فى زمرتهم، فنحن يا رب جميعا نعبدك ونستعين بك.
الثالث: نسب النعمة إلى الله عز وجل [أنعمت عليهم] ولم ينسب إليهم الإضلال والغضب، فلم يقل: غضبت عليهم أو الذين أضللتهم، وذلك لتعليم العباد الأدب مع الله تعالى، فالشر لا ينسب إلى الله تعالى أدباً، وإن كان منه تقديراً، كما ورد فى الدعاء المأثور "الخير كله بيديك" والشر لا ينسب إليك".
خاتمة فى بيان الأسرار القدسية فى فاتحة الكتاب العزيزيقول شهيد الإسلام الشيخ حسن البنا في رسالته القيمة "مقدمة فى التفسير" ما نصه: "لا شك أن من تدبر الفاتحة الكريمة رأى من غزارة المعاني وجمالها، وروعة التناسب وجلاله، ما يأخذ بلبه، يضيء جوانب قلبه، فهو يبتدئ ذاكراً تالياً متيمناً باسم الله، الموصوف بالرحمة التى تظهر آثار رحمته متجددة فى كل شيء، فإذا استشعر هذا المعنى، ووقر فى نفسه انطلق لسانه بحمد هذا الإله
[الرحمن الرحيم] وذكره الحمد بعظيم نعمه، وكريم فضله، وجميل آلائه، البادية فى تربيته للعوالم جميعاً، فأجال بصيرته فى هذا المحيط الذى لا ساحل له، ثم تذكر من جديد أن هذه النعم الجزيلة والتربية الجليلة، ليست من رغبة ولا رهبة، ولكنها عن تفضل ورحمة، فنطق لسانه مرة ثانية بـ
[الرحمن الرحيم] ومن كمال هذا الإله العظيم أن يقرن الرحمن بـ "العدل" ويذكر بالحساب بعد "الفضل"، فهو مع رحمته السابغة المتجددة سيدين عباده ويحاسب خلقه يوم الدين
[يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله] فتربيته لخلقه قائمة على الترغيب بالرحمة، والترهيب بالعدالة والحساب
[مالك يوم الدين] وإذا كان الأمر كذلك فقد أصبح العبد مكلفاً بتحري الخير، والبحث عن وسائل النجاة، وهو فى هذا أشد ما يكون حاجة إلى من يهديه سواء السبيل، ويرشده إلى الصراط المستقيم، وليس أولى به في ذلك من خالقه وولاه، فليلجأ إليه وليعتمد عليه وليخاطبه بقوله:
[إياك نعبد وإياك نستعين] وليسأله الهداية من فضله إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم بمعرفة الحق واتباعه، غير المغضوب عليهم بالسلب بعد العطاء، والنكوص بعد الاهتداء، وغير الضالين التائهين، الذي يضلون عن الحق أو يريدون الوصول إليه فلا يوفقون للعثور عليه، آمين. ولا جرم أن "آمين" براعة مقطع فى غاية الجمال والحسن، وأي شيء أولى بهذه البراعة من فاتحة الكتاب، والتوجه إلى الله بالدعاء؟ فهل رأيت تناسقا أدق، أو ارتباطاً أوثق، مما تراه بين معاني هذه الآية الكريمة؟ وتذكر وأنت تهيم فى أودية هذا الجمال ما يرويه رسول الله (ص) عن ربه فى الحديث القدسي (قسمت الصلاة بينى وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل..) الحديث وأدم هذا التدبر والإنعام، واجتهد أن تقرأ فى الصلاة وغيرها على مكث وتمهل، وخشوع وتذلل، وأن تقف على رؤوس الآيات، وتعطي التلاوة حقها من التجويد أو النغمات، من غير تكلف ولا تطريب، واشتغال بالألفاظ عن المعاني، فإن ذلك يعين على الفهم، ويثير ما غاض من شآبيب الدمع، وما نفع القلب شئ أفضل من تلاوة فى تدبر وخشوع" .
.......................انتهى بفضل الله تفسير الفاتحة.........
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]