[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] جحود فرعون وقصة موسى مع السحرة
ثم قال تعالى : " ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى * قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى * فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى * قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى "
يخبر تعالى عن شقاء فرعون وكثرة جهله وقلة عقله ، في تكذيبه بآيات الله واستكباره عن اتباعها ، وقوله لموسى : إن هذا الذي جئت به سحر ، ونحن نعارضك بمثله ، ثم طلب من موسى أن يواعده إلى وقت معلوم ومكان معلوم
وكان هذا من أكبر مقاصد موسى عليه السلام : أن يظهر آيات الله وحججه وبراهينه جهرة بحضرة الناس ولهذا " قال موعدكم يوم الزينة " وكان يوم عيد من أعيادهم ومجتمع لهم " وأن يحشر الناس ضحى " أي من أول النهار في وقت اشتداد ضياء الشمس ، فيكون الحق أظهر وأجلى ، ولم يطلب أن يكون ذلك ليلاً في ظلام ، كما يروج عليهم محالاً وباطلاً ، بل طلب أن يكون نهاراً جهرة ، لأنه على بصيرة من ربه ، ويقين بأن الله سيظهر كلمته ودينه ، وإن رغمت أنوف القبط !
* * *
قال الله تعالى : " فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى * قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى * فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى * قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى * فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى "
يخبر تعالى عن فرعون أنه ذهب فجمع من كان ببلاده من السحرة ، وكانت بلاد مصر في ذلك الزمان مملوءة سحرة فضلاء ، في فنهم غاية ، فجمعوا له من كل بلد ومن كل مكان فاجتمع منهم خلق كثير وجم غفير ، فقيل : كانوا ثمانين ألفاً - قاله محمد بن كعب - وقيل سبعين ألفاً قاله القاسم بن أبي بردة ، وقال السدي : بضعة وثلاثين ألفاً ، وعن أبي أمامة : تسعة عشر ألفاً ، وقال محمد بن إسحاق : خمسة عشرة ألفاً وقال كعب الأحبار : كانوا اثنى عشر ألفاً
وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس : كانوا سبعين رجلاً ، وروى عنه أيضاً أنهم كانوا أربعين غلاماً من بني إسرائيل ، أمرهم فرعون أن يذهبوا إلى العرفاء فيتعلموا السحر ، ولهذا قالوا : " وما أكرهتنا عليه من السحر " وفي هذا نظر
وحضر فرعون وأمراؤه وأهل دولته وأهل بدله عن بكرة أبيهم وذلك أن فرعون نادى فيهم أن يحضروا هذا الموقف العظيم ، فخرجوا وهم يقولون : " لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين "
وتقدم موسى عليه السلام إلى السحرة فوعظهم ، وزجرهم عن تعاطي السحر الباطل ، الذي فيه معارضة لآيات الله وحججه فقال : " ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى * فتنازعوا أمرهم بينهم "
قيل معناه أنهم اختلفوا فيما بينهم ، فقائل يقول : هذا كلام نبي وليس بساحر ، وقائل منهم يقول : بل هو ساحر فالله أعلم وأسروا التناجي بهذا وغيره
" قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما " يقولون : إن هذا وأخاه هارون ، ساحرانا عليمان مطبقان متقنان لهذه الصناعة ، ومرادهما أن يجتمع الناس عليهما ويصولا على الملك وحاشيته ، ويستأصلاكم عن آخركم ويستأمرهما عليكم بهذه الصناعة
" فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى " وإنما قالوا الكلام الأول ليتدبروا ويتواصوا ، ويأتوا ، بجميع ما عندهم من المكيدة والمكر والخديعة والبهتان
وهيهات ! كذبت والله الظنون ، وأخطأت الآراء ، أني يعارض البهتان ، والسحر والهذيان خوارق العادات التي أجراها الديان ، على يدي عبده الكليم ، ورسوله الكريم المؤيد بالبرهان ، الذي يبهر الأبصار وتحار فيه العقول والأذهان
وقولهم : " فأجمعوا كيدكم " أي جميع ما عندكم " ثم ائتوا صفا " أي جملة واحدة ، ثم حضوا بعضهم بعضاً على التقدم في هذا المقام ، لأن فرعون كان قد وعدهم ومناهم ، وما يعدهم الشيطان إلا غروراً
" قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى * قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى * فأوجس في نفسه خيفة موسى * قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى * وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى "
لما اصطفى السحرة ووقف موسى وهارون عليهما السلام تجاههم قالوا له : إما أن تلقي قبلنا ، وإما أن نلقي قبلك " قال بل ألقوا " أنتم ، وكانوا قد عمدوا إلى حبال وعصي ، فأودعوها الزئبق وغيره ، من الآلات التي تضطرب بسببها تلك الحبال والعصي اضطراباً يخيل للرائي أنها تسعي باختيارها ، وإنما تتحرك بسبب ذلك ، فعند ذلك سحروا أعين الناس واسترهبوهم ، وألقوا حبالهم وعصيهم ، وهم يقولون : " بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون "
قال الله تعالى : " فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم " وقال الله تعالى : " فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى * فأوجس في نفسه خيفة موسى " أي خاف على الناس أن يفتنوا بسحرهم ومحالهم ، قبل أن يلقى ما في يده ، فإنه لا يصنع شيئاً قبل أن يؤمر ، فأوحى الله إليه في الساعة الراهنة : " لا تخف إنك أنت الأعلى * وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى " فعند ذلك ألقى موسى عصاه وقال : " ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين * ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون "
وقال تعالى : " وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون * فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون * فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين * وألقي السحرة ساجدين * قالوا آمنا برب العالمين * رب موسى وهارون "
وذلك أن موسى عليه السلام لما ألقاها ، صارت حية عظيمة ذات قوائم ، فيما ذكره غير واحد من علماء السلف ، وعنق عظيم وشكل هائل مزعج ، بحيث إن الناس انحازوا منها وهربوا سراعاً وتأخروا عن مكانها وأقبلت هي على ما ألقوه من الحبال والعصي ، فجعلت تلقفه واحداً واحداً أسرع ما يكون من الحركة ، والناس ينظرون إليها ويتعجبون منها ، وأما السحرة فإنهم رأوا ما هالهم وحيرهم في أمرهم ، واطلعوا على أمر لم يكن في خلدهم ولا بالهم ولا يدخل تحت صناعتهم وأشغالهم ، فعند ذلك وهنالك تحققوا بما عندهم من العلم أن هذا ليس بسحر ولا شعوذة ، ولا محال ولا خيال ، ولا زور ولا بهتان ولا ضلال ، بل حق لايقدر عليه الا الحق ، الذي ابتعث هذا المؤيد به الحق ، وكشف الله عن قلوبهم غشاوة الغفلة ، وأنارها بما خلق فيها من الهدى وأزاح عنها القسوة ، وأنابوا إلى ربهم وخروا له ساجدين ، وقالوا جهرة للحاضرين ولم يخشوا عقوبة ولا بلوى : " آمنا برب هارون وموسى " كما قال تعالى : " فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى * قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى * قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا * إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى * إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا * ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى * جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى "
قال سعيد بن جبير وعكرمة والقاسم بن أبي بردة والأوزاعي وغيرهم : لما سجد السحرة رأوا منازلهم وقصورهم في الجنة تهيأ لهم ، وتزخرف لقدومهم ولهذا لم يلتفتوا إلى تهويل فرعون وتهديده ووعيده
وذلك لأن فرعون لما رأى هؤلاء السحرة قد أسلموا وأشهروا ذكر موسى وهارون في الناس على هذه الصفة الجميلة ، أفزعه ذلك ورأى أمراً بهره ، وأعمى بصيرته وبصره ، وكان فيه كيد ومكر وخداع وصنعة بليغة في الصد عن سبيل الله ، فقال مخاطباً للسحرة بحضرة الناس : " آمنتم له قبل أن آذن لكم " أي هلا شاورتموني فيما صنعتم من الأمر الفظيع بحضرة رعيتي ؟ ! ثم تهدد وتوعد وأبرق وأرعد ، وكذب فأبعد قائلاً : " إنه لكبيركم الذي علمكم السحر " وقال في الآية أخرى : " إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون "
وهذا الذي قاله من البهتان الذي يعلم كل فرد عاقل ما فيه من الكفر والكذب والهذيان ، بل لا يروج مثله على الصبيان ، فإن الناس كلهم من أهل دولته وغيرهم يعلمون أن موسى لم يره هؤلاء يوماً من الدهر ، فكيف يكون كبيرهم الذي علمهم السحر ؟ ثم هو لم يجمعهم ولا علم باجتماعهم حتى كان فرعون هو الذي استدعاهم ، واجتباهم من كل فج عميق ، وواد سحيق ، من حواضر بلاد مصر والأطراف ، ومن المدن والأرياف
* * *
قال الله تعالى في سورة الأعراف : " ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه فظلموا بها فانظر كيف كان عاقبة المفسدين * وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين * حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل * قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين * فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين * ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين * قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم * يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون * قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين * يأتوك بكل ساحر عليم * وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين * قال نعم وإنكم لمن المقربين * قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين * قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم * وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون * فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون * فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين * وألقي السحرة ساجدين * قالوا آمنا برب العالمين * رب موسى وهارون * قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون * لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين * قالوا إنا إلى ربنا منقلبون * وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين "
وقال تعالى في سورة يونس : " ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين * فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين * قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا ولا يفلح الساحرون * قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين * وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم * فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون * فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين * ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون "
وقال تعالى في سورة الشعراء : " قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين * قال أو لو جئتك بشيء مبين * قال فأت به إن كنت من الصادقين * فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين * ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين * قال للملإ حوله إن هذا لساحر عليم * يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون * قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين * يأتوك بكل سحار عليم * فجمع السحرة لميقات يوم معلوم * وقيل للناس هل أنتم مجتمعون * لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين * فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أإن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين * قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين * قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون * فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون * فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون * فألقي السحرة ساجدين * قالوا آمنا برب العالمين * رب موسى وهارون * قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين * قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون * إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين "
والمقصود أن فرعون كذب وافترى وكفر غاية الكفر في قوله : " إنه لكبيركم الذي علمكم السحر " وأتي ببهتان يعلمه العالمون في قوله : " إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون " ، وقوله : " لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف " يعنى يقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى وعكسه ، " ولأصلبنكم في جذوع النخل " أي على جذوع النخل لأنها أعلى وأشهر " ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى " يعني في الدنيا
" قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات " أي لن نطيعك ونترك ما وقع في قلوبنا من البينات والدلائل القاطعات " والذي فطرنا " قيل معطوف ، وقيل قسم " فاقض ما أنت قاض " أي فاعل ما قدرت عليه " إنما تقضي هذه الحياة الدنيا " أي إنما حكمك علينا في هذه الحياة الدنيا ، فإذا انتقلنا منها إلى الدار الآخرة صرنا إلى حكم الذي أسلمنا له واتبعنا رسله : " إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى " أي ثوابه خير مما وعدتنا به من التقريب والترغيب " وأبقى " أي وأدوم من هذه الدار الفانية وفي الآية الأخرى : " قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون * إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا " أي ما اجترمناه من المآثم والمحارم " أن كنا أول المؤمنين " أي من القبط ، بموسى وهارون عليهما السلام
وقالوا له أيضاً : " وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا " أي ليس لنا عندك ذنب إلا إيماننا بما جاءنا به رسولنا ، واتباعنا آيات ربنا لما جاءتنا " ربنا أفرغ علينا صبرا " أي ثبتنا على ما ابتلينا به من عقوبة هذا الجبار العنيد ، والسلطان الشديد ، بل الشيطان المريد ، " وتوفنا مسلمين "
وقالوا أيضاً يعظونه ويخوفونه بأس ربه العظيم : " إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا " يقولون له : فإياك أن تكون منهم فكان منهم " ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى " أي المنازل العالية ، " جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى " فاحرص أن تكون منهم ، فحالت بينه وبين ذالك الأقدارالتي لا تغالب ولاتمانع ، وحكم العلي العظيم بأن فرعون - لعنه الله - من أهل الجحيم ، ليباشر العذاب الأليم ، يصب من فوق رأيه الحميم ويقال له على وجه التقريع والتوبيخ ، وهو المقبوح المنبوح والذميم اللئيم : " ذق إنك أنت العزيز الكريم "
والظاهر من هذه السياقات أن فرعون - لعنه الله - صلبهم وعذبهم رضي الله عنهم قال عبد الله بن عباس وعبيد بن عمير : كانوا من أول النهار سحرة ، فصاروا من آخره شهداء بررة !
ويؤيد هذا قولهم : " ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين "
كبراء قوم فرعون يحرضونه إيذاء موسى واصرار فرعون على الباطل وابتلاء آل فرعون
كبراء قوم فرعون يحرضونه إيذاء موسى واصرار فرعون على الباطل وابتلاء آل فرعون
ولما وقع ما وقع من الأمر العظيم ، وهو الغلب الذي غلبته القبط في ذلك الموقف الهائل ، وأسلم السحرة الذين استنصروا بهم ، لم يزدهم ذلك إلا كفراً وعناداً وبعداً عن الحق
قال الله تعالى بعد قصص ما تقدم في سورة الأعراف : " وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون * قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين * قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون "
يخبر تعالى عن الملأ من قوم فرعون ، وهم الأمراء والكبراء ، أنهم حرضوا ملكهم فرعون على أذية نبي الله موسى عليه السلام ، ومقابلته بدل التصديق بما جاء به ، والكفر والرد والأذي
قالوا : " أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك " يعنون - قبحه الله - أن دعوته إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، والنهي عن عبادة ما سواه ، فساد بالنسبة إلى اعتقاد القبط لعنهم الله وقرأ بعضهم : " ويذرك وآلهتك " أي وعبادتك ويحتمل شيئين : أحدهما ويذر دينك ، وتقويه القراءة الأخرى والثاني : ويذر أن يعبدك ، فإنه كان يزعم أنه إله ، لعنه الله
" قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم " أي لئلا يكثر مقاتلتهم " وإنا فوقهم قاهرون " أي غالبون
" قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا " أي إذا هم هموا بأذيتكم والفتك بكم ، فاستعينوا أنتم بربكم واصبروا على بليتكم " إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين " أي فكونوا أنتم المتقين تكون لكم العاقبة ، كما قال في الآية الأخرى : " وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين * فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين * ونجنا برحمتك من القوم الكافرين "
وقولهم : " قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا " أي قد كانت الأبناء تقتل قبل مجيئك وبعد مجيئك إلينا " قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون "
وقال الله تعالى في سورة حم المؤمن : " ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين * إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب "
وكان فرعون الملك ، وهامان الوزير ، وكان قارون إسرائيلياً من قوم موسى ، إلا أنه كان على دين فرعون وملئه ، وكان ذا مال جزيل جداً ، كما ستأتي قصته فيما بعد إن شاء الله تعالى
" فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم وما كيد الكافرين إلا في ضلال " وهذا القتل للغلمان من بعد بعثة موسى إنما كان على وجه الإهانة والإذلال ، والتقليل لملأ بني إسرائيل لئلا يكون لهم شوكة يمتنعون بها ، ويصولون على القبط بسببها وكانت القبط منهم يحذرون ، فلم ينفعهم ذلك ، ولم يرد عنهم قدر الذي يقول للشيء كن فيكون
" وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد " ولهذا يقول الناس على سبيل التهكم : صار فرعون مذكراً وهذا منه ، فإن فرعون في زعمه خاف على الناس أن يضلهم موسى عليه السلام !
" وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب " أي عذت بالله ولجأت إليه واستجرت بجنابه ، من أن يسطو فرعون وغيره على بسوء وقوله : " من كل متكبر " أي جبار عنيد لا يرعوى ولا ينتهى ، ولا يخاف عذاب الله وعقابه ، لأنه لا يعتقد معاداً ولا جزاءً ولهذا قال : " من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب "
* * *
" وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب * يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد "
وهذا الرجل هو ابن عم فرعون ، وكان يكتم إيمانه من قومه خوفاً منهم على نفسه وزعم بعض الناس أنه كان إسرائيلياً ، وهو بعيد ومخالف لسياق الكلام لفظاً ومعنى والله أعلم
قال ابن جريج قال ابن عباس : لم يؤمن من القبط بموسى إلا هذا ، والذي جاء من أقصا المدينة وامرأة فرعون رواه ابن أبي حاتم
وقال الدارقطني لا يعرف من اسمه شمعان بالشين المعجمة إلا مؤمن آل فرعون حكاه السهيلي
وفي تاريخ الطبراني : أن اسمه خير فالله أعلم
والمقصود أن هذا الرجل كان يكتم إيمانه ، فلما هم فرعون - لعنه الله - بقتل موسى عليه السلام ، وعزم على ذلك وشاور ملأه فيه خاف هذا المؤمن على موسى ، فتلطف في رد فرعون بكلام جمع فيه الترغيب والترهيب ، فقال على وجه المشورة والرأي
وقد ثبت في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر " وهذا من أعلى مراتب هذا المقام ، فإن فرعون لا أشد جوراً منه ، وهذا الكلام لا أعدل منه ! لأنه فيه عصمة نبي ويحتمل أنه كاشفهم بإظهار إيمانه ، وصرح لهم بما كان يكتمه والأول أطهر والله أعلم
قال : " أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله " أي من أجل أنه قال ربي الله فمثل هذا لا يقابل بهذا بل بالإكرام والإحترام أو الموادعة وترك الإنتقام
يعني لأنه : " قد جاءكم بالبينات من ربكم " أي بالخوارق التي دلت على صدقه فيما جاء به عمن أرسله ، فهذا إن وادعتموه كنتم في سلامة ، لأنه : " إن يك كاذبا فعليه كذبه "
ولا يضركم ذلك " وإن يك صادقا " وقد تعرضتم له " يصبكم بعض الذي يعدكم " أي وأنتم تشفقون أن ينالكم أيسر جزاء مما يتوعدكم به ، فكيف بكم إن حل جميعه عليكم ؟ وهذا الكلام في هذا المقام ، من أعلى مقامات التلطف والإحتراز والعقل التام
وقوله : " يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض " يحذرهم أن يسلبوا هذا الملك العزيز ، فإنه ما تعرضت الدول للدين إلا سلبوا ملكهم وذلوا بعد عزهم !
وكذا وقع لآل فرعون ، ما زالوا في شك وريب ، ومخالفة ومعاندة لما جاءهم موسى به حتى أخرجهم الله مما كانوا فيه من الملك والأ
والدور والقصور ، والنعمة والحبور ، ثم حولوا إلى البحر مهانين ، ونقلت أرواحهم بعد العلو والرفعة إلى أسفل السافلين
ولهذا قال هذا الرجل المؤمن المصدق ، البار الراشد ، التابع للحق ، الناصح لقومه ، الكامل العقل : " يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض " أي عالين على الناس حاكمين عليهم ، " فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا " ؟ أي لو كنتم أضعاف ما أنتم فيه من العدد والعدة ، والقوة والشدة لما نفعنا ذلك ، ولا رد عنا بأس مالك الممالك
" قال فرعون " أي في جوابه هذا كله : " ما أريكم إلا ما أرى " أي ما أقول لكم إلا ما عندي " وما أهديكم إلا سبيل الرشاد "
وكذب في كل من هذين القولين وهاتين المقدمتين ، فإنه قد كان يتحقق في باطنه وفي نفسه أن هذا الذي جاء به موسى من عند الله لا محالة ، وإنما كان يظهر خلافه بغياً وعدواناً ، وعتواً وكفراناً
قال الله تعالى إخباراً عن موسى : " قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبورا * فأراد أن يستفزهم من الأرض فأغرقناه ومن معه جميعا * وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا "
وقال تعالى : " فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين * وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين "
وأما قوله : " وما أهديكم إلا سبيل الرشاد " ، فقد كذب أيضاً ، فإنه لم يكن على رشاد من الأمر ، بل كان على سفه وضلال وخبل وخيال ، فكان أولاً ممن يعبد الأصنام والأمثال ، ثم دعا قومه الجهلة الضلال إلى أن اتبعوه وطاوعوه وصدقوه فيما زعم من الكفر والمحال ، في دعواه أنه رب ، تعالى الله ذو الجلال !
قال الله تعالى : " ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون * أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين * فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين * فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين * فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين * فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين "
وقال تعالى : " فأراه الآية الكبرى * فكذب وعصى * ثم أدبر يسعى * فحشر فنادى * فقال أنا ربكم الأعلى * فأخذه الله نكال الآخرة والأولى * إن في ذلك لعبرة لمن يخشى "
وقال تعالى : " ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين * إلى فرعون وملئه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد * يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود * وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود "
والمقصود بيان كذبه في قوله : " ما أريكم إلا ما أرى " وفي قوله : " وما أهديكم إلا سبيل الرشاد "
* * *
" وقال الذي آمن يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب * مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد * ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد * يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد * ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب * الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار "
يحذرهم ولي الله إن كذبوا برسول الله موسى أن يحل بهم ما حل بالأمم من قبلهم ، من النقمات والمثلات ، مما تواتر عندهم وعند غيرهم ، مما حل بقوم نوح وعاد وثمود ومن بعدهم إلى زمانهم ذلك ، مما أقام به الحجج على أهل الأرض قاطبة ، في صدق ما جاءت به الأنباء ، لما أنزل من النقمة بمكذبيهم من الأعداء ، وما أنجى الله من اتبعهم من الأولياء وخوفهم يوم القيامة ، وهو يوم التناد ، أي حين ينادى الناس بعضهم بعضاً ، حين يولون إن قدروا على ذلك ، ولا إلى ذلك سبيلاً : " يقول الإنسان يومئذ أين المفر * كلا لا وزر * إلى ربك يومئذ المستقر " وقال تعالى : " يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان * فبأي آلاء ربكما تكذبان * يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران * فبأي آلاء ربكما تكذبان "
وقرأ بعضهم : " يوم التناد " بتشديد الدال ، أي يوم الفرار ويحتمل أن يكون يوم القيامة ، ويحتمل أن يكون يوم يحل الله بهم البأس ، فيودون الفرار ولات حين مناص " فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون * لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون "
ثم أخبرهم عن نبوة يوسف في بلاد مصر ، وما كان منه من الإحسان إلى الخلق في دنياهم وأخراهم وهذا من سلالته وذريته ، ويدعو الناس إلى توحيد الله وعبادته ، وألا يشركوا به أحداً من بريته ، وأخبر عن أهل الديار المصرية في ذلك الزمان ، وأن من سجيتهم التكذيب بالحق ومخالفة الرسل ولهذا قال : " فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا " أي وكذبتم في هذا ولهذا قال : " كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب * الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم " أي يردون حجج الله وبراهينه ودلائل توحيده ، بلا حجة ولا دليل عندهم من الله ، فإن هذا أمر يمقته الله غاية المقت ، أي يبغض من تلبس به من الناس ، ومن اتصف به من الخلق ، " كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار " قرئ بالإضافة وبالنعت ، وكلاهما متلازم : أي هكذا إذا خالفت القلوب الحق - ولا تخالفه إلا بلا برهان - فإن الله يطبع عليها ، أي اختمر عليها بما فيها
* * *
" وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب * أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب "
كذب فرعون موسى عليه السلام في دعواه أن الله أرسله ، وزعم فرعون لقومه ما كذبه وافتراه في قوله لهم : " ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين " وقال هاهنا : " لعلي أبلغ الأسباب * أسباب السماوات " أي طرقها ومسالكها " فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا " ويحتمل هذا معنيين : أحدها وإني لأظنه كاذباً في قوله أن للعالم رباً غيري ، والثاني في دعواه أن الله أرسله والأول أشبه بظاهر حال فرعون ، فإنه كان ينكر ظاهراً إثبات الصانع والثاني أقرب إلى اللفظ حيث قال : " فأطلع إلى إله موسى " أي فأسأله هل أرسله أم لا ؟ " وإني لأظنه كاذبا " أي في دعواه ذلك وإنما كان مقصود فرعون أن يصد الناس عن تصديق موسى عليه السلام ، وأن يحثهم على تكذيبه
قال الله تعالى : " وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل " وقرئ : " وصد عن السبيل " " وما كيد فرعون إلا في تباب "
قال ابن عباس ومجاهد : يقول : إلا في خسار ، أي باطل ، لا يحصل له شيء من مقصوده الذي رامه ، فإنه لا سبيل للبشر أن يتوصلوا بقواهم إلى نيل السماء أبداً - أعني السماء الدنيا - فكيف بما بعدها من السموات العلى ؟ وما فوق ذلك من الإرتفاع الذي لا يعلمه إلا الله عز وجل ؟ وذكر غير واحد من المفسرين أن هذا الصرح ، وهو القصر الذي بناه وزيره هامان له لم ير بناء أعلى منه ، وأنه كان مبنياً من الآجر المشوي بالنار ولهذا قال : " فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا "
وعند أهل الكتاب : أن بني إسرائيل كانوا يسخرون في ضرب اللبن ، وكان مما حملوا من التكاليف الفرعونية أنهم لا يساعدون على شيء مما يحتاجون إليه فيه ، بل كانوا هم الذين يجمعون ترابه وتبنه وماءه ، ويطلب منهم كل يوم قسط معين ، إن لم يفعلوه ضربوا وأهينوا غاية الإهانة وأوذوا غاية الأذية ، ولهذا قالوا لموسى : " أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون " فوعدهم بأن العاقبة لهم على القبط ، وكذلك وقع ، وهذا من دلائل النبوة
* * *
ولنرجع إلى نصيحة المؤمن وموعظته واحتجاجه
قال الله تعالى : " وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد * يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار * من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب "
يدعوهم رضي الله عنه إلى طريق الرشاد الحق ، وهي متابعة نبي الله موسى وتصديقه فيما جاء به من عند ربه ثم زهدهم في الدنيا الدنية الفانية المنقضية لا محالة ، ورغبهم في طلب الثواب عند الله الذي لا يضيع عمل عامل لديه ، القدير الذي ملكوت كل شيء بيديه الذي يعطي على القليل كثيراً ، ومن عدله لا يجازي على السيئة إلا مثلها ، وأخبرهم أن الآخرة هي دار القرار ، التي من وافاها - مؤمناً قد عل الصالحات - فله الدرجات العاليات ، والغرف الآمنات ، والخيرات الكثيرة الفائقات ، والأرزاق الدائمة التي لا تبيد ، والخير الذي كل ما لهم منه في مزيد
ثم شرع في إبطال ما هم عليه ، وتخويفهم مما يصيرون إليه ، فقال : " ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار * تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار * لا جرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وأن مردنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار * فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد * فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب * النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب "
كان يدعوهم إلى عبادة رب السموات والأرض ، الذي يقول للشيء كن فيكون ، وهم يدعونه إلا عبادة فرعون الجاهل الضال الملعون
ولهذا قال لهم على سبيل الإنكار : " ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار * تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار "
ثم بين لهم بطلان ما هم عليه من عبادة ما سوى الله من الأنداد والأوثان ، وأنها لا تملك من نفع ولا إضرار فقال : " لا جرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وأن مردنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار " أي لا تملك تصرفاً ولا حكماً في هذه الدار ، فكيف تملكه يوم القرار ؟ وأما الله عز وجل فإنه الخالق الرازق للأبرار والفجار ، وهو الذي أحيا العباد ويميتهم ويبعثهم ، فيدخل طائعهم الجنة ، وعاصيهم إلى النار
ثم توعدهم إن هم استمروا على العناد بقوله : " فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد "
قال الله : " فوقاه الله سيئات ما مكروا " أي بإنكاره سلم مما أصابهم من العقوبة على كفرهم بالله ، ومكرهم في صدهم على سبيل الله ، مما أظهروا للعامة من الخيالات والمحالات ، التي ألبسوا بها على عوامهم وطعامهم ، ولهذا قال : " وحاق " أي أحاط " بآل فرعون سوء العذاب * النار يعرضون عليها غدوا وعشيا " أي تعرض أرواحهم في برزخهم صباحاً ومساء على النار " ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب " وقد تكلمنا على دلالة هذه الآية على عذاب القبر في التفسير ، ولله الحمد
والمقصود أن الله تعالى لم يهلكهم إلا بعد إقامة الحجة عليهم ، وإرساله الرسول إليهم ، وإزاحة الشبه عنهم ، وأخذ الحجة عليهم منهم ، بالترهيب تارة والترغيب أخرى ، كما قال تعالى : " ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون * فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون * وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين * فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين "
يخبر تعالى أنه ابتلى آل فرعون وهم قومه من القبط بالسنين وهي أعوام الجدب التي لا يستغل فيها زرع ولا ينتفع بضرع وقوله : " ونقص من الثمرات " وهي قلة الثمار من الأشجار " لعلهم يذكرون " أي فلم ينتفعوا ولم يرتدعوا ، بل تمردوا واستمروا على كفرهم وعنادهم " فإذا جاءتهم الحسنة " والخصب ونحوه " قالوا لنا هذه " أي هذا الذي نستحقه ، وهذا الذي يليق بنا " وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه " أي يقولون هذا بشؤمهم أصابنا هذا ، ولا يقولون في الأول إنه ببركتهم وحسن مجاورتهم لهم ، ولكن قلوبهم منكرة مستكبرة نافرة عن الحق ، إذا جاء الشر أسندوه إليه ، وإن رأوا خيراً ادعوه لأنفسهم قال الله تعالى : " ألا إنما طائرهم عند الله " أي الله يجزيهم على هذا أوفر الجزاء " ولكن أكثرهم لا يعلمون
" وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين " أي مهما جئتنا به من الآيات - وهي الخوارق للعادات - فلسنا نؤمن بك ولا نتبعك ولا نطيعك ، ولو جئتنا بكل آية ، وهكذا أخبر الله عنهم في قوله : " إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون * ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم "
قال الله تعالى : " فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين " أما الطوفان فعن ابن عباس : هو كثرة الأمطار المغرقة المتلفة للزروع والثمار ، وبه قال سعيد بن جبير وقتادة والسدي والضحاك ، وعن ابن عباس وعطاء هو كثرة الموت ، وقال مجاهد : الطوفان الماء والطاعون على كل حال ، وعن ابن عباس : أمر طاف بهم
وقد روى ابن جرير وابن مردويه من طريق يحيى بن يمان ، عن المنهال بن خليفة ، عن الحجاج ، عن الحكم بن ميناء ، عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الطوفان الموت " وهو غريب
وأما الجراد فمعروف ، وقد روى أبو داود عن أبي عثمان ، عن سلمان الفارسي ، قال : سئل رسول الله عن الجراد فقال : " أكثر جنود الله لا آكله ولا أحرمه " وترك النبي صلى الله عليه وسلم أكله إنما هو على وجه التقذر له ، كما ترك أكل الضب ، وتنزه عن أكل البصل والثوم والكراث ، لما ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن أبي أوفي قال : غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد وقد تكلمنا على ما ورد فيه من الأحاديث والآثار في التفسير
والمقصود أنه استاق خضراءها فلم يترك لهم زراعاً ولا ثماراً ولا سبداً ولا لبداً وأما القمل فعن ابن عباس : هو السوس الذي يخرج من الحنطة وعنه أنه الجراد الصغار الذي لا أجنحة له ، وبه قال مجاهد وعكرمة وقتادة ، وقال سعيد بن جبير والحسن : هو دواب سود صغار وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : القمل هي البراغيث وحكى ابن جرير عن أهل العربية : أنها الحمنان ، وهو صغار القردان فوق القمامة ، فدخل معهم البيوت والفرش ، فلم يقر لهم قرار ، ولم يمكنهم معه الغمض ولا العيش وفسره عطاء بن السائب بهذا القمل المعروف وقرأها الحسن البصري كذلك بالتخفيف
وأما الضفادع فمعروفة ، لبستهم حتى كانت تسقط في أطعمتهم وأوانيهم ، حتى إن أحدهم إذا فتح فاه لطعام أو شراب سقطت فيه ضفدعة من تلك الضفادع
وأما الدم فكان قد مزج ماؤهم كله به فلا يستقون من النيل شيئاً إلا وجدوه دماً عبيطاً ولا من نهر ولا بئر ولا شيء إلا كان دماً في الساعة الراهنة
هذا كله ولم ينل بني إسرائيل من ذلك شيء بالكلية وهذا من تمام المعجزة الباهرة ، والحجة القاطعة ، أن هذا كله يحصل لهم عن فعل موسى عليه السلام ، فينالهم عن آخرهم ، ولا يحصل هذا لأحد من بني إسرائيل ، وفي هذا أدل دليل
* * *
قال محمد بن إسحاق : فرجع عدو الله فرعون حين آمنت السحرة مغلوباً مغلولاً ، ثم أبي إلا الإقامة على الكفر والتمادي في الشر ، فتابع الله عليه بالآيات ، فأخذه بالسنين : فأرسل عليه الطوفان ثم الجراد ، ثم القمل ، ثم الضفادع ، ثم الدم ، آيات مفصلات ، فأرسل الطوفان - وهو الماء - ففاض على وجه الأرض ثم ركد ، لا يقدرون علي أن يحرثوا ولا أن يعملوا شيئاً ، حتى جهدوا جوعاً
فلما بلغهم ذلك : " قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل "
فدعا موسى ربه فكشفه عنهم فلما لم يفوا له بشيء مما قالوا أرسل الله عليهم الجراد ، فأكل الشجر فيما بلغني ، حتى إن كان ليأكل مسامير الأبواب من الحديد حتى تقع دورهم ومساكنهم ، فقالوا مثل ما قالوا ، فدعا ربه فكشف عنهم ، فلم يفوا له بشيء مما قالوا ، فأرسل الله عليهم القمل ، فذكر لي أن موسى عليه السلام ، أمر أن يمشى إلى كثيب حتى يضربه بعصاه فمضى إلى كثيب أهيل عظيم ، فضربه بها ، فانثال عليهم قملاً ، حتى غلب على البيوت والأطعمة ، ومنعهم النوم والقرار
فلما جهدهم قالوا له مثل ما قالوا له ، فدعا ربه فكشف عنهم فلم يفوا له بشيء مما قالوا ، فأرسل الله عليهم الضفادع ، فملأت البيوت والأطعمة والآنية ، فلم يكشف أحد ثوباً ولا طعاماً ، إلا وجد فيه الضفادع قد غلبت عليه
فلما جهدهم ذلك قالوا له مثل ما قالوا ، فدعا ربه فكشف عنهم ، فلم يفوا بشيء مما قالوا ، فأرسل الله عليهم الدم ، فصارت مياه آل فرعون دماً ، لا يستقون من بئر ولا نهر ، ولا يغترفون من إناء ، إلا عاد دماً عبيطاً وقال زيد بن أسلم : المراد بالدم الرعاف رواه ابن أبي حاتم
قال الله تعالى : " ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل * فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون * فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين "
يخبر تعالى عن كفرهم وعتوهم واستمرارهم على الضلال والجهل ، والإستكبار عن اتباع آيات الله وتصديق رسوله ، مع ما أيده به من الآيات العظيمة الباهرة ، والحجج البليغة القاهرة ، التي أراهم الله إياها عياناً ، وجعلنا عليهم دليلاً وبرهاناً
وكلما شاهدوا آية وعاينوها ، وجهدهم وأضنكهم ، حلفوا وعاهدوا موسى لئن كشف عنهم هذه ليؤمنن به ، وليرسلن معه من هو من حزبه ، فكلما رفعت عنهم تلك الآية عادوا إلى شر مما كانوا عليه ، وأعرضوا عما جاءهم به من الحق ولم يلتفتوا إليه ، فيرسل الله عليهم آية أخرى هي أشد مما كانت قبلها وأقوى ، فيقولون ويكذبون ، ويعدون ولا يفون : " لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل " فيكشف عنهم ذلك العذاب الوبيل ، ثم يعودون إلى جهلهم العريض الطويل
هذا ، والعظيم الحليم القدير ، ينظرهم ولا يعجل عليهم ، ويؤخرهم ويتقدم بالوعيد إليهم ، ثم أخذهم بعد إقامة الحجة عليهم ، والإعذار إليهم ، أخذ عزيز مقتدر ، فجعلهم عبرة ونكالاً وسلفاً لمن أشبههم من الكافرين ، ومثلاً لمن اتعظ من عباده المؤمنين
كما قال تبارك وتعالى وهو أصدق القائلين ، في سورة حم والكتاب المبين : " ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه فقال إني رسول رب العالمين * فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون * وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون * وقالوا يا أيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون * فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون * ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون * أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين * فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين * فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين * فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين * فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين "
يذكر تعالى إرساله عبده الكليم الكريم إلى فرعون الخسيس اللئيم ، وأنه تعالى أيد رسوله بآيات بينات واضحات ، تستحق أن تقابل بالتعظيم والتصديق ، وأن يرتدعوا عما هم فيه من الكفر ويرجعوا إلى الحق والصراط المستقيم ، فإذا هم منها يضحكون وبها يستهزئون ، وعن سبيل الله يصدون ، وعن الحق ينصرفون ، فأرسل الله عليهم الآيات تترى يتبع بعضها بعضاً ، وكل آية أكبر من التي تتلوها ، لأن التوكيد أبلغ مما قبله
" وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون * وقالوا يا أيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون " لم يكن لفظ الساحر في زمنهم نقصاً ولا عيباً ، لأن علماءهم في ذلك الوقت هم السحرة ، ولهذا خاطبوه به في حان احتياجهم إليه ، وضراعتهم لديه قال الله تعالى " فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون "
ثم أخبر تعالى عن تبجح فرعون بملكه ، وعظمة بلده وحسنها ، وتخرق الأنهار فيها ، وهي الخلجانات التي يكسرونها أيام زيادة النيل ثم تبجح بنفسه وحليته ، وأخذ يتنقص رسول الله موسى عليه السلام ، ويزدريه بكونه " لا يكاد يبين " يعني كلامه بسبب ما كان في لسانه من بقية تلك اللثغة ، التي هي شرف له وكمال وجمال ، ولم تكن مانعة له أن كلمه الله تعالى وأوحى إليه ، وأنزل بعد ذلك التوراة عليه
وتنقصه فرعون - لعنه الله - بكونه لا أساور في يديه ، ولا زينة عليه ! وإنما ذلك من حلية النساء ، لا يليق بشهامة الرجال ، فكيف بالرسل الذين هم أكمل عقلاً ، وأتم معرفة ، وأعلى همة وأزهد في الدنيا ، وأعلم بما أعد الله لأوليائه في الأخرى ؟
وقوله : " أو جاء معه الملائكة مقترنين " لا يحتاج الأمر إلى ذلك ، فإن كان المراد أن تعظمه الملائكة ، فالملائكة يعظمون ويتواضعون لمن هو دون موسى عليه السلام بكثير ، كما جاء في الحديث : " إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع " فكيف يكون تواضعهم وتعظيمهم لموسى الكليم عليه الصلاة والتسليم والتكريم ! ؟
وإن كان المراد شهادتهم له بالرسالة فقد أيد من المعجزات بما يدل قطعاً لذوي الألباب ، ولمن قصد إلى الحق والصواب ، ويعمى عما جاء به من البينات والحجج الواضحات من نظر إلى القشور ، وترك لب اللباب ، وطبع على قلبه رب الأرباب ، وختم عليه بما فيه من الشك والإرتياب ، كما هو حال فرعون القبطي العمي الكذاب
* * *
قال الله تعالى : " فاستخف قومه فأطاعوه " أي استخف عقولهم ودرجهم من حال إلى حال إلى أن صدقوه في دعواه الربوبية لعنه الله وقبحهم " إنهم كانوا قوما فاسقين * فلما آسفونا " أي أغضبونا " انتقمنا منهم " أي بالغرق والإهانة وسلب العز ، والتبدل بالذل وبالعذاب بعد النعمة ، والهوان بعد الرفاهية ، والنار بعد طيب العيش ، عياذاً بالله وسلطانه القديم من ذلك
" فجعلناهم سلفا " أي لمن اتبعهم في الصفات " ومثلا " أي لمن اتعض بهم : خاف من وبيل مصرعم ، ممن بلغه جلية خبرهم وما كان من أمرهم كما قال الله تعالى : " فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات قالوا ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين * وقال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون * وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين * واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون * فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين * وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون * وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين "
يخبر تعالى أنه لما استكبروا عن اتباع الحق ، وادعى ملكهم الباطل ، ووافقوه عليه وأطاعوه فيه ، اشتد غضب الرب القدير العزيز الذي لا يغالب ولا يمانع عليهم ، فانتقم منهم أشد الإنتقام ، وأغرقه هو وجنوده في صبيحة واحدة فلم يفلت منهم أحد ، ولم يبق منهم ديار ، بل كل قد غرق فدخل النار ، وأتبعوا في هذه الدار لعنة بين العالمين ، ويوم القيامة بئس الرفد المرف