العلاج التحليلي النفسي la thérapie psychanalytique
مقدمة:
إن بدايات العلاج النفسي لها جذور منذ القديم ، فالاضطرابات النفسية كانت و لازالت مشكل يعيشه الإنسان و يسعى دائما للبحث عن حل له، ففي العصور القديمة كان الإنسان في إفريقيا و آسيا يرجع أسباب الاضطراب النفسي إلى غضب الآلهة لذا كان العلاج يحتاج إلى فلكلور من الطقوس الميتافيزيقية و الغيبية.و استمرت هذه الاتجاهات إلى غاية الحضارة اليونانية ثم الرومانية أين كانت بدايات التفسيرات الشبه علمية فكان التركيز على البحث عن العلاج الكيمائي.و وصول للحضارة الإسلامية ظهرت أول النزعات الإنسانية في علاج الأمراض النفسية، من منطلق علمي تفسيري فأنشأت أول المستشفيات في القاهرة و دمشق و فاس على العكس من أوربا التي سادت فيها أفكار تأثير السحر و الشعوذة .
و تجدر الإشارة إلى أن أول ظهور فعلي للعلاج النفسي كعلم قائم بذاته كان في نهاية القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين على يد سغموند فرويد ، الذي تنبه إلى أن الاضطرابات النفسية يكمن أن تكون راجعة لصراعات داخلية لاشعورية. و نحن اليوم بصدد الكلام عن هذا النوع العلاج النفسي : فما هو العلاج النفسي التحليلي و ما هي خصائصه و ما مدى فعاليته في ظل العلاجات النفسية الحديثة كل هذه الأسئلة سنحاول الإجابة عنها في هذا المقال .
و قد عرف التحليل النفسي العديد من التغيرات و التطورات فمنذ 1896 إلى يومنا هذا ظهرت العديد من التيارات التحليلية ،و سواء كان التوجه للتيار التحليلي الفرويدي التقليدي أو للتيارات الأخرى الحديثة ( يونغ ،أدلر، هورني و كلاين..) فإن العلاج النفسي التحليلي يبقى دائما بنفس المبدأ.فهو نظرة سيكولوجية للديناميات الطبيعية الإنسانية و الهدف العلاجي يكون دائما بالكشف عن الذكريات المكبوتة التي تمثل أساس صراعي عند الفرد فباستحضارها يحدث التغير الذي هو أساس توازن الشخصية. و يتألف العلاج التحليلي من منظومتين متميزتين هما التحليل النفسي الكلاسيكي و العلاج النفسي المستوحى من التحليل النفسي :
I- العلاج التحليلي الفرويدي
يمكن لنا أن نعرف العلاج التحليلي الفرويدي على أنه عملية علاجية يتم فيها اكتشاف الذكريات الطفولية المكبوتة في اللاشعور و هي في مجملها تجارب مؤلمة و دوافع ممنوعة تشكل صراع في الجهاز النفسي . و يعرف فرويد المسيرة العلاجية La cure psychanalytique بأنها عملية تحقيق معمق للآليات النفسية من جهة و طريقة علاجية و شفائية لاضطرابات العصابية من جهة أخرى .
1- نشأة التقنية التحليلية:
التحليل النفسي وليد للتنويم المغناطيسي، و يمكن القول أن فرويد انتقل من أسلوب التنويم إلى أسلوب التفريغ De l’hypnose à la catharsis و هذا الانتقال دفعه إلى ابتداع طريقة جديدة في العلاج النفسي ، كان أساسها أهمية الحوار اللغوي في فهم الأعراض و رمزية العرض للمعاش الطفولي الأولي.
و هنا ظهر مفهوم الصدميات كأساس للاضطراب و الصراع النفسي، و دور المحلل هو البحث عن وسيلة تحفيز لكشف التركيبة الداخلية للعميل و سواء كان الأسلوب مباشرا بأن يبدأ العميل في إفراغ مكبوتاته أو غير مباشر بتأويل المحلل لتصورات العميل فالهدف يبقى دائما الوصول إلى أساس العرض .
2- خصائص التقنية التحليلية العلاجية:
إن العلاج التحليلي الفرويدي يستغرق وقتا طويلا قد يصل لأربع جلسات في الأسبوع لأكثر من ثلاث سنوات و فيها ينشأ الرابط العاطفي بين المحلل و العميل .و يكون العميل في وضعية تمدد على أريكة أو سرير أين يكون مسترخيا و بعيدا عن العين المباشرة للعميل فيحدث نوع من الانفلات و الانطلاق لتعبير لفظي و غير لفظي هنا يستطيع المحلل أن يبدأ الجلسة بعبارة تحفيزية مثلا كأن يقول له ( قل كل ما يطرأ على ذهنك) .
و يبدأ العميل في الغوص في أعماق ذكرياته و عليه أن يروي أو يعبر عن كل ما يشاهده، يسمعه، يحس به للمحلل الذي يعمل بصبر و بدون أي اتهام أو حكم أو تهكم على تيسير كل الطرق الممكنة للعميل بهدف تفريغ مكنوناته و قد يقوم المحلل بالتعليق المجرد عن التشجيع و ذلك بطرق علمية مثلا أن يفسر له سلوكا بأسلوب جديد أو يعيد له بناء جزء أو مشهد قديم.
ثم يصل المحلل إلى استنتاج حوصلة لكل جلسة قام بها مع العميل بهدف وضع تصور واضح للحالة. و هذا ما يكمنه فيما بعد من التحكم الكامل في الانفعالات و التظاهرات الصراعية للعميل التي تساهم إلى حد كبير في حدوث النقلة العلاجية Le transfert thérapeutique هذا الأخير الذي يقوم على قاعدة معرفة العميل لنفسه و التحكم في نزواته و مواجهة الإحباط الذي تمت معايشته بشكل مرضي أثناء الطفولة.
و هنا يكمن القول بأن المحلل استطاع الوصول إلى علاج العميل لأن التحويل العلاجي هو الخطوة الأخيرة في المسيرة العلاجية و بفضله يصل العميل إلى أكبر قدر ممكن من التوظيف السوي لغرائزه و انفعالاته.
3- محاور العلاج التحليلي:
كما سبق و أن ذكرنا أن التحليل النفسي هو الإجراء الذي يهدف إلى إعادة بناء الشخصية و تجريد المريض من الأعراض و ذلك بإلقاء الضوء عن المشكلات الانفعالية الطفولية للعميل و محاولة استثمارها في شكل جديد سوى. فإن الهدف لن يتحقق إلا بتوظيف جملة من التقنيات مثل التداعي الحر ، و التنفيس الانفعالي و التحويل و المقاومة كل هذا بجانب الأحلام و الهفوات les rêves et les lapsus .
و يمكن أن نلخص موقف فرويد في محاور العلاج التحليلي فيمايلي:
1-أنه علاج نفسي بنائي ( يعيد بناء الشخصية وفق المعيار السوي)
2-يقوم العلاج النفسي وفق أطر نظر نفسية بواسطتها يمكن تعديل السلوك المرضي
3-الوصول إلى استثمار سوي يمكن للرغبات المكبوتة من التفريغ بواسطة ميكانزمات دفاعية سوية
4-يقدم التحليل النفسي إسهامات كبيرة في فهم الحالات التي ترجع جذورها إلى الماضي رغم أنها تظهر في شكل تجارب معاصرة .
II العلاج التحليلي الحديث:
بتعرض التحليل النفسي الفرويدي عموما و العلاج التحليلي بالخصوص إلى جملة من الأزمات و الانشقاقات ظهرت مجموعة من التيارات الجديدة في التحليل النفسي بداية من التلاميذ الأوائل لفرويد أمثال كارل يونغ Carl Gustav Jung و ألفرد أدلر Alfred Adler ووصولا إلى ساندو فرنزي Sandor Ferenczi و وليام رايش و كل أنشأ تياره الخاص في التحليل و العلاج النفسي و بعدهم نشأت جماعة الفرويديين الجدد مثل كارن هورني Karen Horny و جماعة علم نفس الأنا أمثال آنا فرويد و إريك أريكسون ثم برزت جماعة شيكاغو برعامة ألكسندر و فرانش هذه الأخيرة التي جمعت بين مفاهيم علم نفس الأنا و الفرويدية الجديدة في العلاج النفسي التحليلي.
1- العلاج النفسي ذو الاتجاه التحليلي:
يقصد به وفق لابلانش و بونتاليس شكل من أشكال العلاج النفسي يقوم على المبادئ التقنية و النظرية للتحليل النفسي دون أن تتحقق شروط المعالجة النفسية التحليلية الصارمة و ذلك في أن الجلسة تكون أقصر و التكرار الأسبوعي أقل و كشكل علاجي متوسط المدة يتوسط كل من العلاج التحليلي التقليدي و النفسي المختصر و لذا هو يندرج ضمن فئة العلاجات التحليلية المتوسطة المدي .
2- العلاج النفسي التحليلي المختصر:
ينحصر الثقل في العلاج النفسي التحليلي المختصر في معالجة الصراع الأساسي أي ما يسمى ببؤرة الصراع Focus التي تعتري أهمية مرضية بالغة، و يختلف العلاج النفسي التحليلي عن العلاج النفسي ذو الاتجاه التحليلي الأطول مدة من خلال التركيز الأكبر على البؤرة الصراعية غير أن كلاهما يشتركان في الإجراءات و المضامين و من أجل التفريق بينهما تم اختيار معيار شكلي للتفريق بين الشكلين يتألف من عدد الجلسات و مدة العلاج : فالجلسات التي تبلغ عدد 30 جلسة فما دون هي قصيرة المدى وفا فوق تدرج ضمن العلاج المتوسط .
3- تحليل الأنا:
يمثل العلاج بتحليل الأنا تعديلا للتحليل النفسي التقليدي و يقوم على أساس أن الأنا القوى و المستقل هو الأنا السوى و من أكثر المتأثرين بهذا الاتجاه هم هارتمان و أنا فرويد و هورني و يؤكد رواد هذا الاتجاه أن قدرة الانسان على ممارسة الضبط لمحيطه تساهم إلى حد كبير في صحته النفسية غير أنه لا نجد أي وصف لتقنية علاجية معينة لهذا التيار.
4- العلاج التحليلي الفردي:
يقوم العلاج الفردي على علم النفس الفردي لأدلر و خلافا لفرويد يذهب أدلر من أن الحدث النفسي الكلي يسعى إلى هدف واحد و يسعى نحو هدف نهائي تخيلي و في العلاج الفردي يتم السعي نحو كشف هذا الطموح اللاشعوري نحو الهدف و في العلاج بالمحادثة المبني على أساس الاهتمام بمساعدة المريض في تفهم نمط حياته و منطقه الخاص حيث يصل هو بنفسه إلى 'كشف السر' و يتمكن من القيام بتعديل الاتجاه لشخصيته.
- دور المعالج النفسي في ظل العلاجات التحليلية:
يراقب المحلل النفسي عميله لفترة طويلة و يستمع إليه و يناقشه في أحداث ماضيه و حاضره و أحلامه حتى يكشف المشكلات اللاشعورية الخفية لديه، و تظهر على السطح و يتعامل معها في الحاضر و يقوم المحلل بدور المراقب و المصغي و المتفهم، فيدرك متى يتكلم و متى يصمت، متى يعطي التفسير الملائم فهو بمثابة مرآة تعكس ما يوضع أمامها و للخبرة و التجربة في التحليل النفسي تأثير كبير في تدعيم فكر المحلل فمن الضروري أن يقوم المحلل النفسي لتجربة تحليل طويل و متعمق قبل ممارسة التحليل، و يقول فرويد بضرورة خضوع المحلل النفسي لتجربة التحليل النفسي قبل قيامه بالممارسة الفعلية حتى يستطيع أن يحتفظ باستقلاليته و حكمه الموضوعيين.
- استخدامات العلاج التحليلي:يستخدم التحليل النفسي في علاج بعض الاضطرابات بيمنا يمنع استخدامه في علاج أخرى فهو يستخدم في حالات العصاب مثل الوسواس الهستيريا الفوبيا و القلق و لا يستخدم العلاج التحليلي في حالات الضعف العقلي و ذهان الشيخوخة.
- ايجابيات التحليل النفسي:
من أهم النقاط الايجابية للتحليل النفسي أنه يهتم بمعالجة الأسباب و لذلك فهو علاج عميق و ثابت و هو يكتشف عن الجوانب اللاشعورية في الشخصية مما يساعد على النمو الحقيقي للشخص و يعيد الثقة له مما يؤدي إلى تكامل شخصيته و ترابطها بدلا من صورتها المرضية المفككة.
- سلبيات التحليل النفسي:
من عيوب التحليل النفسي طول مدة العلاج و ارتفاع تكاليفه و انقسام رواده من كلاسيكيين و محدثين ..و ربما أكبر سلبية فيه هو أنه يحتاج إلى تدريب عملي طويل و خبرة واسعة لذا هو ليس متاح لكل معالج أو ممارس للعلاجات النفسية.
خاتمة:بعد أن تعرفنا في بحثا هذا عن ماهية العلاج النفسي التحليلي و أهم خصائصه ، و بعد أن تكلمنا عن أهم المناهج التي تندرج في إطاره ، نصل الآن إلى نتيجة أن العلاج النفسي التحليلي يكتسي أهمية بالغة في ميدان العلاجات النفسية ، و عليه يجب أن نحاول و لو على الأقل معرفة أهم تقنياته بهدف التمكن من العلاجات النفسية التي تعتبر آخر خطوة للمختص النفساني ..و في الأخير نتمنى فقط أننا وفقنا في الإجابة و لو بالقدر القليل عن الأسئلة التي بدأنا بها بحثنا.....
تحياتي