الفصل الخانس - تصنيف الأدوية النفسية
يمكن تقسيم الأدوية التي تؤثر على الحالة النفسية إلى نوعين أساسيين: الأول ما يغير المزاج والحالة العامة للوعي، والثاني ما يؤثر على الحالة المرضية النفسية.
أولاً- الأدوية التي تؤثر على الحالة النفسية: وهي أدوية تعمل بشكل مباشر على الخلايا العصبية للمخ، ويمكن تقسيمها إلى ثلاث فئات تعتمد على التغير الذي تحدثه في الجهاز العصبي، وهذه الفئات هي:-
1- المنبهات Stimulants وهي تلك الأدوية التي تؤدي إلى زيادة نشاط أي حالة مرتبطة عادة باليقظة، وتؤدي الجرعات العالية منها إلى حدوث نشاط صرعي واضح.
2- مثبطات Depressants وهي تلك الأدوية التي تؤدي إلى زيادة نشاط أي حالة مرتبطة بالنوم والاسترخاء، وتؤدي الجرعات العالية منها إلى فقدان الوعي.
3- مهلوسات Hallucinogens وهي تلك الأدوية التي تشوه عمليات الإدراك والتفكير، وتؤدي الجرعات العالية منها إلى اضطرابات ذهانية.
ثانياً: الأدوية التي تؤثر على الحالة المرضية النفسية:
ومعظم هذه الأدوية يعمل بطريقة غير مباشرة، وعلى الرغم من أن تأثيراتها تكون فورية على خلايا المخ، إلا أن التأثيرات العلاجية لها تتطلب بضعة أسابيع حتى تظهر بشكل واضح، ومن ثم يجب الانتظار حتى تظهر هذه التأثيرات التي تكون نتيجة لتكيف الخلايا العصبية مع تأثيرات هذه الأدوية، وهو ما نسميه التعديل العصبي Neuromodulation.ويمكن تقسيم هذه الأدوية إلى ثلاث فئات أيضاً وفقاً لطبيعة العرض الذي تؤثر عليه، وهذه الفئات هي:-
1- مضادات القلق Anxiolytics وهي الأدوية التي يمكن استخدامها بصفة يومية للتخلص من أعراض الخوف والقلق التي تصيب الفرد، بهدف ممارسة حياته اليومية بصفة طبيعية.
2- مضادات الاكتئاب Antidepressants وهي الأدوية التي تستخدم لعلاج المشاعر السلبية والتي تتراوح بين تعكر المزاج، والاكتئاب المصحوب بميول انتحارية.
3- مضادات الذهان Antipsychotics وهي الأدوية التي تستخدم لعلاج الحالات العقلية الشديدة مثل الفصام حيث يفقد المريض علاقته بالواقع، وينخرط في سلوكيات غير طبيعية.
كيفية عمل العقاقير على المخ
استغرقت عملية فهم الكيفية التي تعمل بها العقاقير على المخ سنوات بل عقوداً طويلة على الرغم من معرفة تأثيراتها الإيجابية والسلبية. ومن أكثر التجارب التي أجريت في تاريخ علم الأدوية ما قام به عالم الفسيولوجيا الإنجليزي الشهير كلود برنارد C. Bernard في بدايات القرن السابع عشر (1800)، حين استخدم أوراق نبات الكوراري Curare المعروف بسميته العالية لدى السكان الأصليين لأمريكا الجنوبية، تلك الأوراق التي كانوا يستخدمونها في بنادق الصيد لإحداث شلل في حركة الحيوانات التي يقومون باصطيادها. واستطاع بيرنارد أن يكتشف أن مادة الكوراري هذه ليس لها أي تأثير يذكر على الأنسجة العصبية أو الأنسجة العضلية، وإنما تعمل على المنطقة الرابطة بين هذين النسيجين والمعروفة باسم الترابط العصبي العضلي Neuromuscular junction.
وبعد عقود لاحقة استطاع سير شارلز شيرنجتون C. Sherrington أن يدرس خصائص المنطقة التي تربط بين كل خلية عصبية والخلية التالية لها. ومن ثم صك مصطلح التشابك العصبي Synapse. وقد لاحظ أن انتقال الإشارات عبر هذا المشتبك تختلف عن التوصيل الكهربي في عدة نقاط هي:-
1- إن الإشارة تسير في اتجاه واحد.
2- إن الإشارة تتغير أثناء مرورها عبر المشتبك.
3- إن الإشارة تتأخر عند المشتبك بما يعادل 0.5 مللي ثانية.
4- إن بعض الإشارات تعطل الإشارات الأخرى.
ومع نهاية القرن التاسع عشر توقع كثير من العلماء أن التوصيل عبر المشتبك يمكن أن يشمل بعض المواد الكيميائية. وتبين معرفة تأثير العديد من المواد الكيميائية الموجودة داخل الجسم على الجهاز العصبي وكان من أكثرها شهرة الأسيتايل كولين والنورإيبينفرين. وعلى الرغم من أن هذه المواد كان معروفاً عنها تأثيراتها على النشاط العصبي في المختبرات، إلا أنه لم يكن هناك أي دليل على الإطلاق بأنها يمكن أن تعمل كموصلات عصبية. والطريقة الوحيدة التي تم من خلالها تأكيد ذلك كانت دراسة أوتو لووي O. Loewi الذي جاءته فكرتها في الحلم عام 1921. وقد كانت تجربة لووي بسيطة ودقيقة في نفس الوقت. فقد قام بتشريح قلب ضفدعة إلى نصفين: الأول يحتوى على العصب الحائر، والثاني بدونه، ووضع كلاً من نصفي القلب في محلول ملحي، واكتشف أن كلا النصفين استمر في الانقباض، وأن تنبيه العصب الحائر لا يؤدي إلا إلى انخفاض معدل دقات النصف الذي يحتوي على هذا العصب.
والجزء الذكي في هذه التجربة تمثل فيما قام به لووي من ضخ سائل الملح الموجود به النصف المحتوي على العصب الحائر الذي تم تنبيهه، إلى النصف الذي لا يحتوي على هذا العصب، وكانت النتيجة مفاجئة مذهلة، إذ أدى هذا الضخ إلى انخفاض معدل الانقباض في هذا النصف أيضاً. ولم تكن هناك أي توصيلات كهربية بين النصفين، والطريقة الوحيدة التي فسر بها لووي هذه النتيجة هو وجود مادة كيميائية انتقلت عبر السائل الملحي وأدت إلى نفس التأثير، وأن هذه المادة أفرزها التنبيه الكهربي للعصب الحائر، وهي مادة الأسيتايل كولين التي حصل بسبب اكتشافها على جائزة نوبل فيما بعد، والتي كانت أول إشارة إلى وجود التوصيل الكيميائي في الرسائل العصبية. وقد تبين أن إفراز الموصل الكيميائي عبر المشتبك العصبي هو السبب الذي يؤدي إلى انتقال الإشارة العصبية في اتجاه واحد كما لاحظ شيرنجتون، وأن الوقت الذي يحتاجه المشتبك لتحرير الموصل العصبي من الحويصلة هو الوقت الذي حسبه شيرنجتون بنحو 0.5 ميللي ثانية.
ونظراً لأن الجهاز العصبي الطرفي يمكن الوصول إلى أجزائه بسهولة فقد أصبح أكثر أجزاء الجهاز العصبي اختباراً في المختبرات، وبعد تجربة لووي أصبح من الواضح أن الأسيتايل كولين يعمل كموصل عصبي في كثير من الأحيان، وأن هذا الموصل لا يفرزه العصب الحائر في القلب فقط، ولكنه موجود في كل العضلات الملساء والأعضاء التي يغذيها الجهاز العصبي البارسيبمثاوي، ولذلك فقد اُعتبر الأسيتايل كولين فيما بعد الموصل العصبي الموجود في كل من الجهازين السيمبثاوي والباراسيمبثاوي، كما أنه موجود في مناطق ارتباط العصب بالعضلات الإرادية، والتي يمكن لمادة الكوراري أن تغلق مستقبلاتها كما لاحظ بيرنارد.
ونظراً لوجود أنواع مختلفة من المستقبلات التي يعمل عليها الأسيتايل كولين (المسكارين والنيكوتين) وكذلك المستقبلات التي يعمل عليها النورإيبينفرين (ألفا وبيتا) فإن تأثيرات هذه الموصلات يختلف فقد يكون تنبيهاً وقد يكون تثبيطياً حسب المستقبل الذي يعملان من خلاله. وبعد كل الاكتشافات التي توصل إليها الباحثون في مجال تشريح وكيميائية المخ يمكننا الآن أن نتفهم كيفية عمل العقاقير بشكل عام والعقاقير النفسية بشكل خاص، من حيث كونها مواد كيميائية تعمل على مستقبلات بعينها فتؤدي إلى تثبيط أو تنشيط مناطق بعينها في الجهاز العصبي.
- وصايا وصف العقاقير النفسية:-
هناك مجموعة من المباديء العامة التي يجب أن نضعها في الاعتبار عند استخدام العقاقير النفسية بشكل عام. فاستخدام هذه العقاقير يُعد أمراً صعباً نظراً للعديد من العوامل منها أن مسار الاضطرابات النفسية التي يتم علاجها لا يمكن التنبؤ به في كثير من الحالات. كما أن أعراض هذه الاضطرابات قد تتداخل فيما بينها، بالإضافة إلى أن وصف هذه الأدوية يتطلب مهارة عالية ومعرفة تامة باستخداماتها حتى يتحقق التوازن الصحيح بين العلاج الدوائي والعلاج النفسي.
وعلى الرغم من أن العلاج الدوائي قد يكون هو الاختيار الأول والأمثل لعلاج كثير من الحالات، إلا أن العلاج النفسي والسلوكي والأسري يجب أن نضعهم أيضاً في الاعتبار إذا ما دعت الضرورة إلى ذلك. وفي كثير من الحالات تكون نتائج استخدام العلاج الدوائي بجانب العلاج النفسي مشجعة بصورة أكبر من استخدام أحدهما دون الآخر. وعلى سبيل المثال فإن المريض الذي يعاني من نوبات الهلع Panic attacks مع وجود مخاوف من الأماكن المزدحمة Agoraphobia قد يُشفى من حالة الفزع بالعلاج الدوائي، ولكنه يظل غير قادر على التخلص من مخاوفه إلا إذا ساعد في ذلك العلاج السلوكي. بينما نجد في حالات أخرى كالهوس مثلاً لا يفيد فيها العلاج النفسي على الإطلاق.
وفيما يتعلق بوصف العقار لعلاج مرض ما يجب على الطبيب أن يكون على دراية كبيرة بالعقار الذي يقوم بوصفه، من حيث تأثيراته والأعراض الجانبية الناجمة عنه، وتوقعاته عن مدى فعاليته في علاج الحالة، وما هي تفاعلاته مع الأدوية الأخرى ...الخ. ومن ثم توجد مجموعة من التوصيات التي يجب وضعها في الاعتبار عند وصف أي عقار، ويمكن أن نطلق على هذه التوصيات الوصايا العشر، والتي تتلخص فيما يلي:-
1- معرفة مشكلة المريض وتحديد التشخيص: وذلك من أجل تحديد العلاج المناسب. وإذا صعب الأمر واستحال وضع تشخيص محدد، يوضع المريض تحت الملاحظة دون استخدام أي عقار، أو استخدام جرعات بسيطة من الأدوية المضادة للقلق.
2- تحديد أكثر الأعراض ظهوراً: فقبل وصف العلاج ينبغي تحديد أكثر الأعراض التي يعاني منها المريض للبدء في علاجها وتحديد مدى نجاح العلاج في ذلك. وفي بعض الحالات قد نحتاج إلى جرعات بسيطة من العلاج كجرعة تجريبية، ولكن يجب ألا تستمر هذه المحاولة طويلاً إذا كانت غير مفيدة، أو ظل التشخيص الأساسي غير واضح.
3- معرفة مدى تداخل الأدوية: حيث ينبغي معرفة كل الاستجابات التي يمكن أن تحدث نتيجة تناول المريض لأكثر من دواء في نفس الوقت. فقد تتفاعل الأدوية النفسية مع ما يتناوله المريض من أدوية أخرى للضغط مثلاً، كما قد تتفاعل الأدوية النفسية فيما بينها وتعطي تأثيرات أكثر قوة، أو يقلل بعضها من كفاءة البعض الآخر أو يقلل من مدة مفعوله.
4- الجرعة التمهيدية: إذا بدأنا في العلاج بدواء ما فيجب أن نبدأ بجرعة معقولة ولمدة مناسبة حتى نتعرف على النتائج، إذ أن الجرعة البسيطة ولفترة قصيرة قد لا تأتي بأي تحسن يمكن في ضوئه تقييم فعالية العلاج.
5- معرفة الأعراض الجانبية للدواء: وذلك من حيث نوعيتها ومدى تأثيرها على الحالة العامة للمريض، وارتباط ظهور هذه الأعراض بجرعة الدواء المستخدم، وذلك من أجل معرفة كيفية التعامل مع هذه الأعراض إذا ظهرت، وكذلك طمأنة المريض إذا أحس بها، واستخدام الجرعة المناسبة التي لا تؤدي إلى ظهور هذه الأعراض.
6- ضمان مطاوعة المريض: وذلك من خلال وضع خطة علاج بسيطة لا تسبب ضيقاً للمريض أو يصعب تنفيذها من جهة الأهل. ومثل هذه الخطة تضمن استمرار المريض في تناول أدويته، وبالتالي تزيد من فرصة التحسن من الأعراض.
7- خطر سوء الاستخدام: إذ يجب أن يكون الطبيب على دراية بمدى قابلية العلاج المستخدم في إحداث سوء استخدام الدواء والاعتماد عليه، فلا يصف إلا جرعات تتناسب وحالة المريض، مع تحديد الكمية المطلوبة والمدة اللازمة، خاصة فيما يتعلق بمضادات القلق، حتى لا يسيء المريض استخدام الدواء ويتناوله بجرعات أكبر من الموصوفة، أو لمدد أكبر من المطلوب.
8- ضمان انتظام العلاج: إذ يجب على المعالج أن يضمن أن المريض يتناول علاجه بانتظام وبنفس الجرعات الموصوفة، وفي الأوقات المحددة، ضماناً للحصول على النتائج الفعالة، وألا يتوقف عن تناول الدواء من تلقاء نفسه حتى لو شعر بالتحسن.
9- ملاحظة المريض باستمرار: إذ يجب متابعة المريض حرصاً على عدم ظهور الأعراض الجانبية، أو حتى التدخل المبكر لعلاج هذه الأعراض إذا ظهرت. كما تزداد أهمية هذه التوصية في الحالات تزداد فيها فرصة إقدام المريض على الانتحار.
10- استشارة زملاء المهنة: إذ يجب ألا يتردد الطبيب في استشارة زملائه إذا كان غير متأكد من التشخيص، أو للمساعدة في وضع خطة علاجية مناسبة وفعالة.
وعند وصف العقار يجب أن نهتم بالتاريخ الفردي أو الأسري لتناول العقاقير. فقد تكون استجابة المريض لعقار ما سابقاً أفضل من استجابته لعقار آخر، وبالتالي يُفضل وصف نفس العلاج إذا ما عاوده المرض مرة أخرى. كذلك قد يستجيب المريض لنفس الدواء وبنفس الجرعة التي يتناولها أحد أقاربه المصابين بنفس المرض نظراً للعوامل الوراثية التي تلعب دوراً في عملية امتصاص الدواء وتمثيله الغذائي.
وإذا لم يستجب المريض لدواء ما يجب على الطبيب أن يجد إجابة لخمسة أسئلة تعرف في المجال الإكلينيكي بما يسمى باللغة الإنجليزية الدالات الخمسة (5Ds) نظراً لأن كل منها يبدأ بالحرف (D)، وتتضمن النواحي التالية:-
1- التشخيص Diagnosis: فقد لا يتحسن المريض نظراً لأن الحالة تم تشخيصها منذ البداية بطريقة خاطئة، وبالتالي تم وصف العلاج غير المناسب، ومن ثم لا تحدث الاستجابة المرغوبة.
2- التشخيص المفارق Differential diagnosis: أي التعرف على الاحتمالات الأخرى للمرض، فقد تتشابه الأعراض مع أعراض مرض آخر، ومن ثم يتم وصف علاج لحالة أخرى لا تسمح للمريض بالاستفادة من العلاج.
3- العقار Drug: فقد يكون العقار الموصوف غير مناسب للحالة بشكل كبير مما يقلل من علامات التحسن والاستجابة المطلوبة. وقد يحدث تداخل وتفاعل بين الدواء الموصوف وما يتناوله المريض من أدوية أخرى، مما يقلل من آثاره الفارماكولوجية، ومن ثم تنخفض نسبة التحسن.
4- الجرعة Dose: قد يتم وصف العلاج المناسب للحالة ولكن بجرعات أقل من الجرعة العلاجية Subtherpaeutic dose وهذه الدواء على الرغم من صحته في علاج الحالة لكن الجرعة الموصوفة غير قادرة على إحداث التأثيرات الفعالة.
5- مدة العلاج Duration: فقد يتم تشخيص الحالة بصورة صحيحة، ويصف الطبيب العلاج المناسب والجرعة العلاجية الكافية، ولكن لا يستخدم المريض العلاج للمدة المطلوبة، وبالتالي لا تظهر الاستجابة المرغوبة في هذه الفترة، ومن ثم يتأخر تحسن الأعراض.
ويُضاف إلى ذلك مجموعة من الوصايا المتعلقة بوصف الدواء لدى كبار السن، حيث تكون هذه الفئة العمرية أكثر استهدافاً وقابلية لظهور الأعراض الجانبية أو السامة إذا تم وصف العلاج بنفس الجرعات المستخدمة في فئة البالغين. ويرجع ذلك للعديد من الأسباب المتعلقة بزيادة نسبة الدهون في أجسام كبار السن والتي ترتبط بها الأدوية عادة، كما تنخفض لديهم وظائف الكبد مما يتدخل في عمليات التمثيل الغذائي للدواء، بالإضافة إلى احتمالية نقص وظائف الكليتين وما يترتب عليه من تعطيل لعملية إخراج الدواء بالكمية المطلوبة، الأمر الذي يؤدي إلى تراكم الدواء بالجسم، ومن ثم زيادة تأثيراته عليهم. ولكل هذه الأسباب يجب تحديد جرعة الدواء المناسبة لكبار السن، والتي سبق أن توضيحها في الفصل الخاص بالمباديء العامة لعلم الأدوية.