فضل
الله ـ تعالى ـ نبيه محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ على جميع الخلق، أولهم
وآخرهم، فهو خاتم الأنبياء وإمامهم، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ ( إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى بني هاشم من قريش، واصطفاني من بني هاشم ) ( مسلم )، وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( أنا سيد ولد آدم ولا فخر، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع، وأول مشفع ) ( مسلم )..
ومما
ينتج من اعتقاد فضله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، استشعار جلالة قدره وعظيم
شأنه، واستحضار محاسنه وأخلاقه، ومكانته ومنزلته، وامتلاء القلب بمحبته ـ
صلى الله عليه وسلم ـ . وهذه المحبة وإن كانت عملا قلبيا, إلا أن آثارها
ودلائلها لابد وأن تظهر على الجوارح . ودلائل حب النبي ـ صلى الله عليه
وسلم ـ كثيرة، منها :
الثناء عليه بما هو أهله، والصلاة والسلام عليه، لأمر الله ـ عز وجل ـ وتأكيده على ذلك بقوله: { إِنَّ
اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } (الأحزاب:56) ..
والشوق
إليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وتعداد فضائله وخصائصه، ومعجزاته ودلائل
نبوته، وتعريف الناس بسنته وتعليمهم إياها، وتذكيرهم بمكانته ومنزلته
وحقوقه، وذكر صفاته وأخلاقه، وسيرته وغزواته ..
وكذلك
التأدب عند ذكره ـ صلى الله عليه وسلم ـ، بأن لا يذكر باسمه مجردا، بل
بوصف بالنبوة والرسالة، فلا يقال: محمد، ولكن: نبي الله، أو الرسول، ونحو
ذلك .. وهذه خصوصية للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ دون إخوانه من الأنبياء،
فلم يخاطبه الله تعالى ـ قَطْ ـ باسمه مجردا، وحين قال: { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ } (الأحزاب: من الآية40)، قال بعدها: { وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ } (الأحزاب: من الآية40) ..
ويجئ التوجيه إلى هذا التأدب مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قوله تعالى ـ: { لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً } (النور: من الآية63) .
قال ابن كثير في تفسيره: " قال الضحاك ، عن ابن عباس :
كانوا يقولون: يا محمد، يا أبا القاسم، فنهاهم الله ـ عز وجل ـ عن ذلك،
إعظامًا لنبيه ـ صلى الله وسلم عليه ـ، فقالوا: يا رسول الله، يا نبي الله
" .
وقال قتادة : " أمر الله أن يهاب نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وأن يُبَجَّل، وأن يعظَّم وأن يسود " ..
و من مظاهر ودلائل حبه ـ صلى الله عليه وسلم ـ الأدب في مسجده، وعدم رفع الصوت عنده، ومن ثم أنكر عمر ـ رضي الله عنه ـ على من رفع صوته فيه .. عن السائب بن يزيد ـ رضي الله عنه ـ قال: ( كنت قائما في المسجد فحصبني رجل(رماني بالحصباء وهي صغار الحصا)، فنظرت فإذا عمر بن الخطاب ،
فقال: اذهب فائتني بهذين، فجئته بهما، قال: من أنتما ـ أو من أين أنتما ـ
؟ قالا: من أهل الطائف، قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما ضربا،
ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ) ( البخاري ).
وكذلك
من مظاهر حبه ـ صلى الله عليه وسلم ـ حفظ حرمة المدينة المنورة فإليها
هاجر، وهي دار نصرته وبلد أنصاره، ومحل إقامة دينه وفيها مات ودفن، وفيها
مسجده ـ خير المساجد بعد المسجد الحرام ـ، ويتأكد فيها العمل الصالح،
وتزداد فيها السيئة قبحا لشرف المكان، ومن ثم ينبغي الأدب فيها، لما لها
من المنزلة والمكانة عند الله وعند رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ..
ومن
دلائل حب الحبيب ـ صلى الله عليه وسلم ـ توقير أحاديثه، والتأدب في
مجالسها وعند سماعها، والمسارعة للعمل بها تعظيما لها ولصاحبها ـ صلى الله
عليه وسلم ـ ، وتصديقه فيما أخبر به من أمر الماضي أو الحاضر أو المستقبل،
قال الله تعالى: { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى
} (النجم 4:3)، فإن من أصول الإيمان وركائزه الإيمان بعصمة النبي ـ صلى
الله عليه وسلم ـ من الكذب أو البهتان، ومن ثم فمن سوء الأدب مع النبي ـ
صلى الله عليه وسلم ـ التشكيك والتكذيب لشيء من أحاديثه بزعم تعارضها مع
العقل أو الهوى ..
يقول ابن القيم
في كتابه مدارج السالكين: " رأس الأدب مع الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ
كمال التسليم له والانقياد لأمره، وتلقي خبره بالقبول والتصديق، دون أن
يُحَمِّله معارضة بخيال باطل يسميه معقولا، أو يحمله شبهة أو شكا، أو يقدم
عليه آراء الرجال .. " .
ومن ثم حاز أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ المنزلة العالية التي حازها، بإيمانه وتصديقه حق التصديق بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : (
لما أسري بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى المسجد الأقصى، أصبح يتحدث
الناس بذلك، فارتد ناس ممن كانوا آمنوا به و صدقوه، و سعوا بذلك إلى أبي بكر
فقالوا : هل لك إلى صاحبك يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس؟ قال:
أوَ قال ذلك؟ قالوا: نعم، قال : لئن كان قال ذلك لقد صدق، قالوا: أو تصدقه
أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس و جاء قبل أن يصبح؟ قال : نعم، إني لأصدقه
فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة. فلذلك سمي أبو بكر الصديق ) ( الحاكم ) .
ومن
الدلائل الهامة على حب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: اتباعه وطاعته
والاهتداء بهديه، فالأصل في أفعال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأقواله
أنها للاتباع والاقتداء، قال الله تعالى: { لَقَدْ
كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو
اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً }
(الأحزاب:21). وقد كثرت النصوص في الحث على اتباعه وطاعته ـ صلى الله عليه
وسلم ـ، والاهتداء بهديه والاستنان بسنته، والدفاع عنها، والدعوة إليها،
وهذا من تمام حبه والأدب معه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ..
يقول القاضي عياض
: " اعلم أن من أحب شيئاً آثره وآثر موافقته، وإلا لم يكن صادقاً في حبه،
وكان مدّعياً، فالصادق في حب النبي - صلى الله عليه وسلم - من تظهر علامة
ذلك عليه، وأولها الاقتداء به، واستعمال سنته، واتباع أقواله وأفعاله،
والتأدب بآدابه في عسره ويسره، ومنشطه ومكرهه، وشاهد هذا قول الله تعالى: {
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ
اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (آل عمران:31) .
إن محبة الرسول - صلى الله علـيـه وسلم- أصل عظيم من أصول الدين، فلا يتم الإيمان إلا بهذه المحبة . فعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين ) ( البخاري )
. ومن ثم فإن حرمته ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد موته، وتوقيره والتأدب
معه، وتعظيم أهل بيته وصحابته، والتمسك بهديه وسنته وشريعته، لازم كما كان
في حال حياته ووجوده، وهذا من دلائل الحب للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ..
نسأل الله تعالى أن يملأ قلوبنا حبا وأدبا معه ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وأن يرزقنا اتباعه والاقتداء به، وأن يحشرنا معه .