هل تتأسس العدالة الاجتماعية على المساواة أم على التفاوت ؟ جدلية
طرح
المشكلة :كل مجتمع من المجتمعات يسعى الى تحقيق العدل بين أفراده ، وذلك
بإعطاء كل ذي حق حقه ، ومن هنا ينشأ التناقض بين العدالة التي تقتضي
المساواة ، وبين الفروق الفردية التي تقتضي مراعاتها ، إذ ان تأسيس العدالة
على المساواة يوقع الظلم بحكم وجود تفاوت طبيعي بين الافراد ، وتأسيسها
على التفاوت فيه تكريس للطبقية والعنصرية ؛ مما يجعالنا نطرح المشكلة
التالية : ماهو المبدأ الامثل الذي يحقق عدالة موضوعية : هل هو مبدأ
المساواة أم مبدأ التفاوت ؟
محاولة حل المشكلة :
عرض الاطروحة:يرى
البعض ان العدالة تتأسس على المساواة ، على اعتبار ان العدالة الحقيقية
تعني المساواة بين الجميع الافراد في الحقوق والواجبات وامام القانون ، وأي
تفاوت بينهم يعد ظلم ، ويدافع عن هذا الرأي فلاسفة القانون الطبيعي
وفلاسفة العقد الاجتماعي وكذا انصار المذهب الاشتراكي .
الحجة :-ويؤكد
ذلك ، ان الافراد – حسب فلاسفة القانون الطبيعي - الذين كانوا يعيشون في
حالة الفطرة كانوا يتمتعون بمساوة تامة وكاملة فيما بينهم ، ومارسوا حقوقهم
الطبيعية على قدم المساواة ، لذلك فالافراد سواسية ، فـ« ليس هناك شيئ
اشبه بشيئ من الانسان بالانسان » ، وعليه فالعدالة تقتضي المساواة بين جميع
الافراد في الحقوق والواجبات بحكم بطبيعتهم المشتركة ، ومادام الناس
متساوون في كل شيئ فما على العدالة الا ان تحترم هذه المساواة .
- اما
فلاسفة العقد الاجتماعي ، فيؤكدون ان انتقال الانسان من المجتمع الطبيعي
الى المجتمع السياسي تـمّ بناءً على تعاقد ، وبما ان الافراد في المجتمع
الطبيعي كانوا يتمتعون بمساواة تامة وكاملة ، لم يكونوا ليقبلوا التعاقد
مالم يعتبرهم المتعاقدون معهم مساوين لهم ، فالمساواة شرط قيام العقد ،
وبالتالي فالعقد قائم على عدالة اساسها المساواة بين الجميع في الحقوق
والواجبات .
- في حين ان الاشتراكيين يرون ان لا عدالة حقيقية دون
مساواة فعلية بين الافراد في الحقوق والواجبات ، ولا تتحقق المساواة دون
الاقرار بمبدأ الملكية الجماعية لوسائل الانتاج ، التي تتيح للجميع التمتع
بهذا الحق ، لأن الملكية الخاصة تكرّس الطبقية والاستغلال وهي بذلك تقضي
على روح المساواة التي هي اساس العدالة .
النقد :إن انصار المساواة
مثاليون في دعواهم الى اقامة مساواة مطلقة ، ويناقضون الواقع ، لأن التفاوت
الطبيعي امر مؤكد ، فالناس ليسوا نسخا متطابقة ولا متجانسين في كل شيئ ،
والفروق الفردية تؤكد ذلك ، ومن ثـمّ ففي المساواة ظلم لعدم احترام الفروق
الفردية الطبيعية .
عرض نقيض الاطروحة :وبخلاف ما سبق ، يرى البعض الاخر
ان العدالة لا تعني بالضرورة المساواة ، بل ان في المساواة ظلم لعدم
احترام الاختلافات بين الناس ، ومن هذا المنطلق فإن العدالة الحقيقة تعني
تكريس مبدأ التفاوت ، إذ ليس من العدل ان نساوي بين اناس متفاوتين طبيعيا .
ويذهب الى هذه الوجهة من النظر فلاسفة قدامى ومحدثين وايضا بعض العلماء في
ميدان علم النفس والبيولوجيا .
الحجة :-فأفلاطون قديما قسم المجتمع الى
ثلاث طبقات : طبقة الحكماء وطبقة الجنود وطبقة العبيد ، وهي طبقات تقابل
مستويات النفس الانسانية : النفس العاقلة والغضبية والشهوانية ، وهذا
التقسيم يرجع الى الاختلاف بين الافراد في القدرات والمعرفة والفضيلة ،
وعلى العدالة ان تحترم هذا التمايز الطبقي ، ومن واجب الدولة ان تراعي هذه
الفوارق ايضا وتوزع الحقوق وفق مكانة كل فرد .
- اما ارسطو فاعتبر
التفاوت قانون الطبيعة ، حيث ان الناس متفاوتين بطبيعتهم ومختلفين في
قدراتهم وفي ارادة العمل وقيمة الجهد المبذول ، وهذا كله يستلزم التفاوت في
الاستحقاق ؛ فلا يجب ان يحصل اناس متساوون على حصص غير متساوية ، او يحصل
اناس غير متساويين على حصص متساوية .
- وحديثا يؤكد ( هيجل 1770 – 1831 )
على مبدأ التفاوت بين الامم ، وان الامة القوية هي التي يحق لها امتلاك كل
الحقوق وتسيطر على العالم ، على اساس انها افضل الامم ، وعلى الامم الاخرى
واجب ، هو الخضوع للامة القوية.
- وفي نفس الاتجاه ، يذهب ( نيتشه 1844
– 1900 ) ان التفاوت بين الافراد قائم ولا يمكن انكاره ، فيقسم المجتمع
الى طبقتين : طبقة الاسياد وطبقة العبيد ، وان للسادة اخلاقهم وحقوقهم ،
وللعبيد اخلاقهم وواجباتهم .
- أما انصار المذهب الرأسمالي فيقيمون
العدل على اساس التفاوت ، فالمساواة المطلقة مستحيلة وفيها ظلم ، إذ لا يجب
مساواة الفرد العبقري المبدع بالفرد العادي الساذج ، ولا العامل المجد
البارع بالعامل الكسول الخامل ، بل لابد من الاعتراف بهذا التفاوت وتشجيعه ،
لأن ذلك يبعث على الجهد والعمل وخلق جو من المنافسة بين المتفاوتين .
-
ويؤكد بعض العلماء ان كل حق يقابله واجب ، غير ان قدرة الافراد في رد
الواجب المقابل للحق متفاوتة في مجالات عدة : فمن الناحية البيولوجية ،
هناك اختلاف بين الناس في بنياتهم البيولوجية والجسمانية ، مما ينتج عنه
اختلاف قدرتهم على العمل ورد الواجب ، لذلك فليس من العدل مساواتهم في
الحقوق ، بل يجب ان نساعد أولئك الذين يملكون افضل الاعضاء والعقول على
الارتقاء اجتماعيا ، يقول الطبيب الفيزيولوجي الفرنسي ( ألكسيس كاريل 1873 –
1944 ) : « بدلا من ان نحاول تحقيق المساواة بين اللامساواة العضوية
والعقلية ، يجب توسيع دائرة هذه الاختلافات وننشئ رجالا عظماء » . ومن
الناحية النفسية ، نجد تمايز بين الافراد من حيث مواهبهم وذكائهم وكل
القدرات العقلية الاخرى ، ومن العبث ان نحاول مساواة هؤلاء المتفاوتون
طبيعيا .
واخيرا ومن الناحية الاجتماعية ، فالناس ليسوا سواء ، فهناك
الغني الذي يملك والفقير الذي لا يملك ، والملكية حق طبيعي للفرد ، وليس من
العدل نزع هذه الملكية ليشاركه فيها آخرين بدعوى المساواة .
النقد :ان
التفاوت الطبيعي بين الافراد امر مؤكد ولا جدال فيه ، غير انه لا ينبغي ان
يكون مبررا لتفاوت طبقي او اجتماعي او عرقي عنصري . كما قد يكون الاختلاف
في الاستحقاق مبنيا على فوارق اصطناعية لا طبيعية فيظهر تفاوت لا تحترم فيه
الفروق الفردية .
التركيب :ان المساواة المطلقة مستحيلة ، والتفاوت
الاجتماعي لا شك انه ظلم ، وعلى المجتمع ان يحارب هذا التفاوت ليقترب ولو
نسبيا من العدالة ، ولا يكون ذلك الا بتوفير شروط ذلك ، ولعل من أهمها
اقرار مبدأ تكافؤ الفرص والتناسب بين الكفاءة والاستحقاق ومحاربة الاستغلال
.
حل المشكلة :وهكذا يتضح ان العدالة هي ما تسعى المجتمعات قديمها
وحديثها الى تجسيدها ، ويبقى التناقض قائما حول الاساس الذي تبنى عليه
العدالة ، غير ان المساواة – رغم صعوبة تحقيقها واقعا – تبقى هي السبيل الى
تحقيق هذه العدالة كقيمة اخلاقية عليا .